القدس المحتلة-المحرر-صبحة عسكر- بعزيمة الفدائي لم يستسلم الشاب محمد عايد صلاح الدين ابن بلدة حزما شمال شرق القدس، لتغلغل مرض السرطان بجسده ووصوله مرحلة متقدمة، بل كان ثابتًا لا تهزه شراسة السرطان، إلى حين استشهاده مطلع العام 2021.
فاضت روح محمد صلاح الدين ابن بلدة حزما شمال شرق القدس، مبتسمًا هادئًا، مساء الحادي عشر من يناير\ كانون ثاني 2021، بمنزله، بعد إصرار والدته على عدم نقله إلى المشفى رغبة بأن يكون وداع بأن يكون وداعه الأخير بين أحضان أسرته.
الفدائي الذي لا يهمه شيء
حينما زار طبيب إسرائيلي بدرجة “بروفسور” وفريق الأطباء محمد في غرفة مستشفى “يخلوف” الإسرائيلية طلب منه الذهاب إلى المنزل ليودع عائلته وأصدقاءه، قبل رحيله، فقال له: “لقد حاولنا محاصرة السرطان عندما هاجم الدماغ، لكنه انتقل إلى العامود الفقري، ويبدو أن حربنا معه قد انتهت، (…)، محمد يجب أن تذهب إلى البيت لتودع الأصدقاء والأهل، وتقضي معهم وقتاً قبل الرحيل”.
كانت إجابة محمد (مواليد عام 2000) صادمة للطبيب، “فليفعل السرطان ما يفعل، لا يهم، الفدائي شو بهمه!”، وبعد خروج الفريق الطبي سألته والدته: “لماذا قلت هذا الكلام”، فأجاب: “لأنني لا أنكسر أمامهم”، حينها عزمت والدته “أم رشدي” على أن لا تنكسر أمامه، ولا تنهار، فكانت له السند القوي المتين، تغرس فيه الصير على الابتلاء، وتحدثه عن صبر الأنبياء وابتلاءاتهم، وعن أجر الصابرين .
أيام وعاد محمد إلى منزله، لكن السرطان قد استفحل بعاموده الفقري، وأفقده شعوره بقدميه بعد غياب لأكثر من أربعين يوماً، ليداهم مرض “كورونا” جسده، ثم هاجمه السرطان بقوة ليفقد بعدها الشعور بيديه، ثم تعافى محمد من “كورونا”، وعاد لمنزله، إلا أن السرطان شل حركته بالكامل، إلى أن استشهد ورائحته العطرة تفوح ووجه الملائكي ينير المكان، تؤكد والدته “أم رشدي”.
سيرة نضالية عطرة
كان لتسليم الاحتلال عام 2014، جثمان خاله الشهيد مؤيد صلاح الدين، بعد احتجاز دام 13 عامًا، مرحلة حاسمة بحياة محمد، الذي كان يبلغ حينها 13 عاماً، فانخرط بالعمل النضالي وهو بمدرسته القريبة من حاجز “عطروت”.
بعد فترة وقبل أن يتم الخامسة عشرة من عمره، اعتقل جنود الاحتلال محمد إثر مطاردته من منطقة حاجز “عطروت” إلى بلدة الرام شرق القدس، لقد كان الجنود عازمون على تصفيته حينها، بحسب اعترافات أحد ضابط الاحتلال الإسرائيلي، ونجا بأعجوبة، وبقي في السجن مدة شهرين نظرًا لصغر سنه، تزامنًا مع تهديد الاحتلال وقاضي المحكمة بفتح حساب “عسير” مع محمد.
لم يردع السجن محمدًا عن الاستمرار بالنضال ورشق قوات الاحتلال بالحجارة على نقاط التماس المقامة على مداخل حزما، حتى أصيب في إحدى المرات بأطرافه السفلية، عام 2018، وبعدها نقل إلى المستشفى لتلقي العلاج، وتشافى من إصابته، لكن الرصاصة استقرت في ركبته.
كان القرار الحاسم، فأكمل محمد مسيرة النضال، برشق قوات الاحتلال بالحجارة والزجاجات الحارقة، ثم تعرض محمد للاعتقال مجددًا، عام 2019، وأمضى في مركز تحقيق “المسكوبية” بالقدس شهراً كاملاً، بظروف قاسية، ثم صدر بحقه حكمًا بالسجن سنتين وفرضت عليه غرامة مالية قيمتها أربعة آلاف شيقل.
لحظة المواجهة مع السرطان!
في سجن عوفر، وبعد أكثر من سنة على اعتقاله الأخير، بدأ محمد صلاح الدين، يشعر بألم وهزلان بأنحاء جسده وفقدان للوزن وانتفاخ بيده، لقد عانى أياماً وشهوراً وإدارة السجن ترفض متعمدة إخراجه إلى الطبيب، ما زاد الأمر سوءًا، فأصبح يتقيأ دماً، في ظل إهمال طبي متعمد، في مقابل احجاج زملائه بالأسر بإعادة وجبات الطعام للضغط على إدارة السجن بإرساله للفحص الطبي كون وضعه الصحي لم يعد يحتمل.
أخيرًا خضعت إدارة السجن لطلب الأسرى، ونقل لإجراء فحوصات طبية، حينها تبين وجود خلل معين يتسبب بهبوط حاد بنسبة الدم، بعدها نقلته إدارة السجن إلى مستشفى “شعار تصيدق” لإجراء الفحوصات اللازم، وتم إخبار عائلته بالأمر.
كانت أوقاتًا صعبة يشوبها القلق والتوتر والانتظار الذي استمر عشرة أيام، ليعلن بعدها رسمياً من خلال هيئة شؤون الأسرى والمحررين والصليب الأحمر الدولي، في شهر يوليو\ تموز 2020، إصابة الأسير الجريح محمد صلاح الدين بمرض السرطان، والصدمة الكبرى أنه بمرحلة متقدمة من المرض وبوضع صحي خطير، مطالبين بالإفراج الفوري عنه، لكن دون جدوى، ونقله الاحتلال إلى ما يسمى “مستشفى سجن الرملة” الذي يشبه المستشفى اسمًا فقط!
إفراج مبكر ومرحلة الألم الجديدة
أربعون يوماً مضت بعد اكتشاف الإصابة بالسرطان، حينها تمكن المحامي حافظ برناط من انتزاع حرية محمد قبل سبعة شهور من انتهاء حكمه، وخرج محمد لتستقبله بلدته حزما بهتافات مدوية تؤكد أنه سينتزع الحياة ويشفى كما انتزع الحرية، وسيغلب المرض كما غلب السجان.
أيام قليلة، بدأ محمد مع رحلة العلاج الكيماوي، وبدأ تساقط الشعر، وألم المعدة، والتقيؤ الذي يتعدى الأربعين مرة يومياً، وألم الأسنان والرأس، ومسكنات بعشرات الوحدات، في مقابل إرادة حديدية وابتسامة لا تفارق وجه محمد، حينها بدأ الفدائي يستعيد قوته وصحته قليلًا، وزاد وزنه، ويطلب الوجبات التي يحب، ويخرج مع الأصدقاء ويقضي معهم جلّ وقته بين الضحك واللعب .
هجوم شرس
اليوم الأخير بالعام التاسع عشر من عمره، وفي 18 نوفمبر\ تشرين ثاني 2020، توجه محمد لتلقي جرعة الكيماوي في مستشفى “يخلوف” الإسرائيلية، وكان يعاني صداعًا لا يفارقه، وقبل أن يبدأ العلاج دخل بحالة إغماء فتدخل فريق الأطباء المشرف على علاجه، ليتضح أن السرطان تسلل إلى دماغه، فخضع لعملية معقدة لتخفيف الضغط عن أعصاب الدماغ، لكن وضعه الصحي ازداد سوءاً.
الأطباء اعترفوا أن رحلة محمد مع العلاج قد انتهت، وأن السرطان الشرس قد أفشل جميع المحاولات الطبية بتسلله إلى الدماغ، بينما ترك للأم الاختيار؛ “نقل إلى المنزل وقضاء ما تبقى من حياته بين أهله وإخوته وأصدقائه، أو المكوثه بالمستشفى لتلقي علاج نووي هو أشبه بآخر خيط”، حينها قررت الأم أن يبقى محمد بالمشفى ويتلقى علاجه.
بعد جلسات علاجية قليلة بدأ محمد يشعر بثقل بقدميه، لتبين أن السرطان بدأ يتسلل إلى العامود الفقري، فقرر الأطباء إيقاف الإشعاع النووي، ورفعوا راية الاستسلام! معلنين هزيمتهم أمام أخبث مرض، وصولًا لنقله إلى منزله، ثم الإعلان عن استشهاده في الحادي عشر من يناير\ كانون أول 2021، لقد ارتقى محمدًا شهيدًا وزفته حزما على الأكتاف ملفوفًا بعلم فلسطين ومعصوب الرأس بالكوفية.