بقلم: فارس بدر
أستطيع القول إن الاجتهاد الأدبي الصهيوني كان أكبر من اجتهاد سياسي في زراعة نوع من الأدب المزيف في وعي العالم الغربي لمساندة جهود الحركة الصهيونية السياسية المبذولة بإقامة كيانهم الغاصب على الأراضي المحتلة.
و يبرز هذا جلياً في كتاب الشهيد الراحل غسان كنفاني (في الأدب الصهيوني)، حيث يوضح كنفاني جزءاً كبيراً من تاريخ هذا المخطط الواسع على مدار سنوات طويلة للعمل على إثبات ما لم يُثبت تاريخياً، ومحاولة زرع الأفكار بين النصوص الادبية للروائيين الصهاينة بوجود حق تاريخي لهم في فلسطين.
إن هذا الكتاب يوثق بشكل موسع عملية التزوير والتزييف التاريخية التي مارسها الكتاب الصهاينة بشكل بشع في رواياتهم، ومن خلال التسلسل الزمني الذي تتبعه كنفاني لبدايات الدجل والتزيف التاريخي في الأدب الصهيوني وخصوصاً النص الروائي للكتاب الصهاينة سوف نلاحظ أنه رغم ركاكة وتناقض الأفكار في الأعمال الصهيونية، لم تخضع تلك تاريخياً للنقد الأدبي المتعارف عليه عالمياً لأي عمل روائي أو مسرحي والذي يأخذ حيزاً عالميا، ما يمنحنا مؤشراً عاماً يمكننا القول فيه إن هناك تماهياً عالميً لإعطاء شرعية على الأدب المطروح عن حق اليهود بفلسطين.
ولو أخذنا مثالاً عن اللغة العبرية، سنراها تاريخياً لم تكن سوى لغة لأداء الطقوس الدينية اليهودية، ولكن تضاعف دورها فجأة وبدون مبررات في الفترة التي سبقت ولادة الحركة الصهيونية السياسية، ثم إن الرواية الصهيونية لم تخرج كذلك عن ثوابت عامة لدى الروائيين الصهاينة، يلخصها الراحل غسان كنفاني بالنقاط التالية:
أولاً: إن البطل في الروايات الصهيونية غالباً ما يكون قادماً من أوروبا، بسبب كابوس مبالغ فيه عن الاضطهاد لليهود فاراً من مذبحة أو محرقه ، آثارها لا تزال في وجدانه أو على شكل علامة على جسده، فاقداً فيها أهله أو أصدقاءه، يفتش عن مكان جميل وهادئ ليرتاح فيه من تعبه و يروي أشواقه القومية من مياه الوطن المزمع الكامن في أعماق اللاشعور لديه ليرمم فيه كبرياءه.
ثانياً: يقع بطل، أو بطلة الرواية، في حب شخص من غير الدين اليهودي، ولكن لن يكون أبداً هذا الشخص عربي.
وعن طريق العلاقة بين هذا اليهودي أو اليهودية مع الطرف الآخر، يقدم الكاتب شرحاً كاملاً للصهيونية ووجهات نظرها وأهدافها القومية ويدير نقاشاً عاطفيا بين الطرفين يتم التركيز فيه دائماً على قصة (العذاب اليهودي)، والنتيجة هي أن يكتشف غير اليهودي مسؤوليته الخاصة عن هذا العذاب بطريقة ما، فيؤمن بالدعاية الصهيونية ليكفر عن ذنب ارتكب في مكان آخر أو في زمان اخر، وويصبح بدوره صاحب قضية صهيونية بدافع عاطفي .
ثالثاً: العرب بصفتهم الطرف الآخر والمباشر، يبرزهم الكاتب الصهيوني كأفراد لا قضية لهم ولا وطن، و غالباً قوة من مأجورين من قِبل قوة خارجية، أو في أحسن الحالات من قِبل سيطرة الاقطاع. ولكي يبرهن الكاتب على ادعائه يشدد على التخلف الثقافي والحضاري للعرب الذي يشكل مرضاً لا شفاء منه. وإذا وحدث أن هناك بالرواية بطل عربي يحبه البطل اليهودي ويحترمه فهو العربي الذي يعتقد أن القضية اليهودية هي الحل الوحيد للعرب، وعبر تسلسل الأحداث يركز المؤلف على ( توحش العرب ) وعلى عدم وجود علاقة تربطهم بالأرض التي خربوها على مر الأجيال.
رابعاً: يدخل الكاتب الصهيونى مسلحاً بهذه الأسلحة الأحداث، ولكنه يبقى محتاجاً إلى تبرير عدم قدرته على الاندماج في المجتمع الذي جاء منه، وبالتالي يبقى التركيز على اضطهاد العالم لليهود يتكرر باستمرار، وليست الغاية من إظهار الاضطهاد وتكبيره هو إظهار عجز العالم عن فهم اليهود، ولكن من أجل إظهار التماسك اليهودي في وجه هذا الاضطهاد، ويؤدي هذا الموقف إلى هجوم على الشعوب الأخرى فيه الكثير من الاحتقار والتصغير كما حدث مع ليون أوريس في رواية إكسودس، وهي من أشهر الروايات الصهيونية حين تحدث المؤلف عن مقاومة اليهود في بولونيا، فأفرد صفحات عديدة لتصغير واحتقار البولونيين.
خامساً: لا يستطيع المؤلف الصهيوني في عند حديثه عن هجره اليهود إلى فلسطين أن يتجنب اعتبار الدين كأهم دافع، ولكنه يحاول دمجها بالدوافع الثانوية( الاضطهاد والمذابح الهتلرية) ويصبح البطل بحسب الكاتب معصوماً، ذهنياً وحضارياً وتاريخياً و بدنياً.. لا يستطيع مواجهة جميع المشاكل بالشكل المناسب فقط، ولكنه يستطيع أيضاً الخروج منها منتصراً بسهولة.