القدس المحتلة-المحرر– عبد الرحمن محمد البابا ونزيهة كسبه – في بيت مليئ بصور فلذات كبدها الشهداء تجلس فاطمة الكسبة من مخيم قلنديا شرقي القدس، بين شريط ذكريات الماضي ومشاهد مليئة بالحنين والألم، صور تبدو لمن يشاهدها أنها ألوان تجمعت وكونت بداخلها أشخاص فقط، لكنها السبيل الوحيد لفاطمة لتبقي أبناءها الشهداء الثلاثة أمام ناظريها.
“خنساء مخيم قلنديا”، أم لثلاثة شهداء، تحملت ما لا تتحمله الكثير من أمهات فلسطين ،حين قدمت أول شهيد لها في رمضان من العام 2001 خلال الانتفاضة الثانية، ليزف لها الابن الثاني شهيداً بعد ٤٠ يوماً على استشهاد شقيقه، فيما لم يتوقف نزيف الفقد، ليلتحق نجلها الثالث بركب أشقائه شهيداً على مذبح الحرية في شهر الرحمة والغفران من العام 2015، فما أن التأم جرح عاد ينزف بعمق أكبر لكنها داوت جراحها بجرعات من الصبر، مؤمنة أنهم شهداء عند ربهم أحياء يرزقون، مجسدة بذلك نموذج الأم الفلسطينية الصابرة الصامدة.
الشهيد ياسر بداية الوجع
بتنهيدة خرجت من أعماقها وعيون بدأت تنهمر منها دموع الحسرة والوجع بدأت والدة الشهداء فاطمة بسرد بداية مسلسل الألم والفقد، والتي بدأت مع نجلها الأكبر، حين اندلعت شرارة الانتفاضة الثانية عام ٢٠٠١ وشعرت بالخوف على ابنائها قررت العيش لفترة وجيزة في الاردن، حينها كان ياسر يبلغ من العمر ١١ ربيعاً، لكن رغم صغر سنه الا انه أصر على العودة لأرض الوطن والدفاع عنه الى جانب
أبناء مخيمه، لتقع أمام عيني والدته جملة كتبها في كتاب اللغة العربية “قصيدة الانتفاضة”، وغيرها من الجمل التي تنصب فقط على طريق الشهادة، وما أثار قلقها هو عبارته الصريحة التي خطها الشهيد البطل ياسرعلي الكسبة حين وصف نفسه فيها بـ”الفدائي” معبرا مايدور بخلده حول الطريق التي وضعها نصب عينيه، وهي الشهادة، فداء لفلسطين فتمثلت فيه روح القصيدة ومقصدها عند البيت القائل “يموت منا الطفل والشيخ ولا يستسلم” فلم يستسلم وسلم جسده للتضحية، متسائلة والدته ما الذي يدفع بطفل بهذا العمر ان يسلك طريق المقاومة والشهادة؟
ففي كانون الأول / ديسمبر من العام ٢٠٠١ ومع حلول شهر رمضان المبارك حان موعد اللقاء حيث صدق ياسر وعد ربه، فبعد أن أتم صيام ٢١ يوماً خرج ياسر سالكاً طريق الشهادة تجاه معبر قلنديا العسكري دون علم أهله، ليسبق خبر إصابته مدفع الإفطار ودخل ياسر في غيبوبة وعلى اجهزة الإنعاش استمرت ثمانية ايام قبل الإعلان عن استشهاده.
انهمرت الدموع من عينيها قائلة “تكبيرات أول ايام عيد الفطر السعيد علت المساجد..وعلت معها روح ياسر الى بارئها ليكون عيده بين الشهداء والانبياء والصديقين في عليين”.
الشهيد سامر وجعٌ آخر
بعد أن ودعت فلذة كبدها الأولى بدأ الخوف والقلق على بقية أبنائها يدق قلبها، وحرصت على الحفاظ عليهم بكل السبل المتاحة فبدأت بتحذير سامر كي لا تفجع بنبأ استشهاده ، حيث الغضب ومشاعر الانتقام كانت تسيطر عليه ثأراً لأخيه أمام عينيها، الا انه وبعد مرور أربعين يوماً على استشهاد سامر لحقها خبر اصابة سامر برصاص قناص اسرائلي غادر في منطقة الرأس، بالقرب من مقر المقاطعة في مدينة رام الله وذلك إبّان حصار الرئيس الراحل ياسر عرفات…بقي أسبوع في غيبوبة كاملة ليزف بعدها شهيداً روى بدمه ارض فلسطين التي لم تجف بعد من دماء أخيه الاصغر ياسر.
وبعيون ملئت بالحسرة ووجع الفراق رثت فاطمة فقداء قلبها قائلة “الأرض بكت عليهم ، الله يجمعني فيهم بالجنة ، لا كبروا ولا عملوا المستقبل اللي بيحلموا فيه “ .
ووصفت خنساء القدس سامر بأنه كان مثقفا يكتب من الخواطر ما يجول بداخله ويكتب يومياته في دفتر لم يتبقى منه سوى الذكريات ..
واستطردت خنساء القدس بأنه كان مشاكساً طيباً بريئاً عيونه الخضراء حادة كعيون النسر، غامض لا يعطي انذاراً لما ينوي فعله فكان يفكر و يتخذ القرار وينفذ دون اخبار احد ،وهذا ما فعله في يوم الشهادة العظيم فخرج وإلى الآن تنتظر عودته .
السحـور الأخـــير
أما الأخ الثالث “حمودة” كما تحب ان تناديه امه فعند إغتيال إخوته،لم يكن يبلغ من العمر سوى الثلاث سنوات، لا يفهم معنى الموت والشهادة، ولكنه كان يشعر بما تمر به أمه ، فكان عندما يرى الشريط الاحمر يعلم ان هناك خبراً عاجلاً ليذهب مسرعاً ليبلغها عنه .
كبر”حمودة “وترعرع في بيت الشهداء، وكان من الاوائل في مدرسته،تربى على الأخلاق الحميدة الى ان وصل للسابعة عشر من عمره ولكنه بقي في عينيها وحيدها وطفلها المدلل تخبئه بعينيها ولا تغمضها عنه خوفاً عليه من غدر الايام ،، والاحتلال !..
جاء رمضان ليرجع بها شريط ذكرياتها الى لحظات استشهاد ياسر الذي ارتقى في عيد الفطر،وكان حلم محمد الأكبر أن يصلي في المسجد الأقصى، خاطر محمد بحياته ليدخل الى القدس، على الرغم من وجود منع اسرائيلي من الدخول لعاصمة فلسطين، يوم الجمعة الثانية من شهر رمضان شد رحاله اليه فوصل هناك وادى صلاة الفجر وصلاة الجمعة، وعاد لمنزله مبتسماً لتحقيق هذا الحلم.
في الجمعة الثالثة تناول مع والده السحور الأخير وذهب لمسجد المخيم لأداء صلاة الفجر ومن ثم توجه لمدخل المخيم للمساعدة في تنظيم السير واستقبال الزائرين للمنطقة لجغرافيتها بوجود معبر للدخول الى القدس.
بعد الانتهاء من تنظيم السير توجه محمد الى منطقة دوار أبو الشهيد بالقرب من معبر قلنديا ،خرج من البوابة سيارة ملئت بضباط من جيش الاحتلال، أطلقوا عليه أربع رصاصات اصابت قلبه ليلحق بركب اخوته الشهداء ،، وصل والدتهم خبر ارتقاء ولدها الثالث ووحيد قلبها مزلزلاً صادماً ومدمراً لقلب أم لم تعد تقوى على على الفراق، فبعد أن رعت ثلاثة من فلذات كبدها مع أحلام وآمال إلا أن طريق الشهادة كان أسرع وأقرب .
فاطمة الكسبة الملقبة بـ”خنساء القدس”مؤمنةً بقدرها بالرغم من معاناة الفقد،و تعلم انهم عند الاكرم منا جميعاً في جنان النعيم ، لكن دموع الفراق غلبتها وهي تقول “الفراق صعب ولكن الله اختارهم ليبقوا بجانبهم ”، فما هو مقدار تحمل قلب الأم التي لا تقوى على مشاهدة ابنها يصيبه جرح بيده فتشعر هي بالجرح، مقابل فقدان ثلاثة أبناء بسبب بطش وحقد المحتل الذي يسلب كل يوم حلم طفل أو شاب ليحرم أهله ومحبيه منه.