رام الله –المحرر- آلاء وهدان– خرج في الصباح الباكر متجهاً إلى عمله في الأراضي الفلسطينية المحتلة ليجمع قوت يومه ويوفر احتياجات أُسرتِه، ليعود محمولاً على الأكتاف بعد أن تم ضربهُ بأداةٍ حادةٍ في منطقة أسفل الأذن.
الشهيد عبد العزيز الرنتيسي بن مدينة رام الله (٦٤)عاماً أب لستة أبناء تعرض لِضربَةٍ قاتلة أثناء عملهِ في منطقة اللد الفلسطينية ليرتقي على إثرها شهيداً.
ولد الرنتيسي عام ١٩٢٤ في قرية رنتيس الواقعة في الشمال الغربي لمدينة رام الله. وأُستشهِدَ بتاريخ ٨/١٢/١٩٨٨ في الذكرى السنوية الأولى لانطلاق الانتفاضة الفلسطينية الشعبية (انتفاضة الحجارة) وكان قد انضم إلى الشهيد حسن سلامه ورفاقَ دربه ليكون مع الثوار التابعين لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وفي عام ١٩٧٠ حُكِمَ عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، ولكن رِعايةَ الله به كانت أكبر من خطط الاحتلال وزعاماته ، إذ قضى منها سنتين ثم أفرج عنه ليخرج حُراً طليقا، لكن في عام ١٩٧١ هدمت قوات الاحتلال منزله الذي كان يُعتَبَر المأوى الوحيد لزوجته وأبنائه .
جاء خبر استشهاده ليشكل صدمةً كبيرةً لأهلِهِ الذين كانوا بإنتظار عودته من العمل كما كُلِ يوم، لكنه هذه المرة لن يعود إلا جُثةً هامدة محمولةً على الأكتاف.
وقفت ابنته الصغرى مقابل الطريق الذي كان يسلكه في عودته إلى المنزل عادةً بعد أن خرجت من المطبخ على صوت بكاء عمّ أرجاء المنزل بعد أن تجمعت النسوة وقد حضرن لمواساتهم في مصيبتهم إذ كانت تُحضر وجبة الغداء، غير مصدقة للخبر وتردد “هي العمال نازلين،أبوي ما مات أبوي ما مات”.
صُراخٌ يملأ البيت، ودُموعٌ تَصِفُ حجم الألم، وشهقاتٍ متتالية صدرت عن زوجةِ الشهيد التي كانت تجلسُ في زاوية وصوتها يكاد يختنق وهي تَهمِسُ “راح زلمتي يما راح” ، يجتمعنَّ حولها النسوة لِيُهدئنَّ من رَوعِها وَيُرددنّ على مسامعها أنّ زوجها قد قضى شهيداً إلى جناتِ الخُلد.
وبعد أن تمّ إرسال الجثمان إلى معهد أبو كبير للطب الشرعي التابع لدولة الاحتلال ليتم تشريح الجثمان وتأكيد سبب الوفاة أعلن الاحتلال أن سبب الوفاة هو سكتة قلبية. لكن إحدى الممرضات العربيات والتي لا تعمل بداخل هذا المعهد قد أخبرت أسرة الشهيد بأن سبب الوفاة من المستحيل أن يكون سكتة قلبية مدللة بكلامها على الدم الذي كان يسيل من الجثمان ولفترة ٍ طويلة بعد ارتقائه وتقول “لو كان سبب الوفاة هو سكتة قلبية لكان الدم قد تخثر في ذات اللحظة”.
بِخُطى ثَقيلة أدخلوا الجثمانَ إلى المنزل ليتم توديعه، لتعلو أصوات البكاء ويسود الصمت المكان وتبدأُ اللحظات الأخيرة تتسلل مسرعة مُعلِنةً النهاية.
قبل أن يوارى الثرى في مقبرة بلدته ومسقط رأسه رنتيس، تجمعوا حوله لينظروا إليه النظرة الأخيرة لعلهم يكتفون بها مدى الحياة . احتضنه أبناؤه الحُضن الأخير الذي لا طالما سيفتقدونه ويشتاقون له وعيونهم تملأها الدموع يحاولون أن يتمالكوا أنفسهم أمام والدتهم ورددوا “وين رحت وتركتنا يابا”. والجميع يُكرر عبارة “إنا لله وإنا إليه راجعون”. ثم تعالت التكبيرات وانطلق موكب التشيع الذي شارك فيه المئات من أبناء القرية بالإضافة إلى أصدقاء الشهيد ومعارفه من القرى والبلدان المجاورة.
ليس فقط زوجة الشهيد وأبناؤه سيفتقدونه، وإنما كذلك جيرانه وسكان الحارة إذ كانوا يجتمعون يومياً ويستحضرون ذكريات طفولتهم لتعلو أصوات ضحكاتهم أرجاء المنطقة، لكن هذه الليلة خيم الحُزن على المكان واستُبدِلت الضحكات بدموع وكان وجع الفراق هو سيد الموقف.
سيفتقده كذلك أهالي القرية فقد كان رَحِمَهُ الله بشهادة الجميع حَسنَ الخُلق محبوباً، صديقاً للكل، يحبه الصغار والكبار، مواظباً على صلاته بالمسجد، محباً للخير، جابراً للخاطر، كريماً ومعطاء، يكرم الضيف ويخفف عن المهموم بابتسامته وتعامله النبيل.
لم يكن الرنتيسي هو الأول ولن يكون الأخير، يرحل شهيداً في دولةٍ تعيش تحت وطأة الاحتلال، وطنٌ يقدم كل يوم شهداء وجرحى وأسرى بحثاُ عن الحرية.
رحل عبد العزيز شهيداً وهو يبحث عن لقمة عيشه، وبعد مرور هذه السنوات مازال شعبه يعاني من احتلال يلتهم الأرض ويقتل أبناءها، ليكون واحداً ممن سيخلدهم التاريخ في درب الحرية والاستقلال.
ملاحظة: الصورة المرفقة مع القصة تعبيرية