الرئيسيةتحقيقاتخبايا ظاهرة التسول في فلسطين ...استغلال "بذيء" للأطفال

خبايا ظاهرة التسول في فلسطين …استغلال “بذيء” للأطفال

*متسولون يلوحون بتقارير طبية تفيد بإصابتهم بأمراض بينما تؤكد جهات طبية توفير السكن لهم خلال فترة العلاج

*صحفيون حاولوا الاقتراب من “متسولين” فتعرضت حياتهم للتهديد

*متسولات يتبادلن الأدوار ومؤشرات على إدارة عصابات للظاهرة

*حالات من التسول الإلكتروني أثبت خبراء أنها عبارة عن منشورات “خادعة”

*في نابلس وحدها تعاملت الشرطة مع حوالي (20) طفلاً ضُبطوا تحت مسمى التسول وعمالة الأطفال

 

تحقيق: حنين قواريق وإلهام سلامة

كنت أسير في أحد الشوارع وسط مدينة نابلس، يكسر ضوضاء المدينة من حولي صوتٌ خافتٌ تملؤه العاطفة، “لو سمحتي”، فالتفت للصوت فإذا به طفلٌ في الحادي عشرة من عمره، يحملُ حقيبَتَه المدرسية، وبصوتٍ مرتجف قال: “معيش أروح، بدي مصاري”، حدقتُ بعينيه السوداويتين اللتين تتجنبا النظرَ مباشرةً نحوك، أخرجت ما تيسر من المال وأعطيته إياه، ثم ولى مسرعاً متوارياً عن الأنظار، لا أدري هل ذهب فعلاً للمنزل، أم قصد شخصاً آخر ليستعطفَه بنظراته البريئة، وينتزع منه مزيداً من المال.

 إن الشوارع المكتظة بالأطفال وكذلك الكبار من المتسولين الذين يمطرونك بدعواتهم حالَ رؤيتك، يبعثونَ الشكوكَ والتساؤلات حولَهم.

فتنتشر ظاهرة التسول بشكل لافت في المجتمع الفلسطيني الذي يعاني أوضاعاً اقتصادية صعبة للغاية، إذ بلغت نسبة الفقر في الأراضي الفلسطينية 29.2% وفق أحدث إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، لعام 2017.

“نرى المتسولين في أماكن وأوقات محددة معظم أيام الأسبوع، لكن يتركز وجودهم يوم السبت على وجه الخصوص” هكذا أخبرنا (ن.ك) وهو تاجر يملك محلا تجاريا وسط نابلس، حيث يستغل المتسولون الإقبال الكبير للمتسوقين من داخل الخط الأخضر، لاستثارة عاطفتهم والتسول منهم مبالغ مالية مختلفة، دون الاكتراث لوجود عناصر من الشرطة الفلسطينية، التي تتواجد بشكل دائم في المكان.

أين عيون القانون عن هذه الظاهرة؟

وفقاً للمادة رقم (389) من قانون العقوبات الفلسطيني رقم (16) لسنة 1960 فإن عقوبة كل من استعطى أو طلب الصدقة من الناس متذرعاً إلى ذلك بعرض جروحه أو عاهة فيه أو بأية وسيلة أخرى، سواء أكان متجولاً أو جالساً في محل عام، أو وجد يقود ولداً دون السادسة عشرة من عمره للتسول وجمع الصدقات أو يشجعه على ذلك، يعاقب في المرة الأولى بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو أن تقرر المحكمة إحالته على أية مؤسسة معينة من قبل وزير الشؤون الاجتماعية للعناية بالمتسولين لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات، غير أنه يجوز لوزير الشؤون الاجتماعية في وقت شاء أن يفرج عن أي شخص عهد به إلى أية مؤسسة بمقتضى هذه المادة وفق الشروط التي يراها مناسبة كما يجوز له أن يعيده إلى المؤسسة المذكورة لإكمال المدة المحكوم بها إذا ما خولفت هذه الشروط، وفي المرة الثانية أو ما يليها بالحبس مدة لا تزيد على سنة واحدة.

لكن هذا القانون غير معمول به، فإذا تم ضبط متسول بالغ عاقل، يدفع غرامة مالية بخسة، وبحسب التقارير السنوية الصادرة عن النيابة العامة لآخر 5 سنوات، تبين أنه في عام 2019 تم تنفيذ جولة ميدانية برفقة مختصين من وزارة التنمية الاجتماعية ووزارة العمل، وتم رصد 148 قيد من الأطفال المتسولين والعاملين، وتم توفير الحماية لهم.

دور وزارة التنمية الاجتماعية

وفي اجتماع مع موظفي وزارة التنمية الاجتماعية  في محافظة نابلس قالوا عن دورهم بخصوص مكافحة التسول: “عندما نضبط حالة تسول نقوم بالعمل على مكافحة هذه الظاهرة ضمن برامج واضحة في وزارة التنمية الاجتماعية، والعمل على أبعادها الثلاثة (الاقتصادية، الاجتماعية، النفسية) فنجري دراسةً شاملة  لبيئة المتسول وعائلته سواء كان حدثاً أم بالغاً، لدراسة الوضع الاقتصادي والنفسي والاجتماعي من خلال الأسرة ككل وليس فقط مع الشخص المتسول، فنُعد خطة تدخل تتمثل أولاً في نشر الوعي حول مخاطر التسول وأبعاده، بالإضافة لأهمية التعاون بين كافة الشركاء لإجراء المزيد من الأبحاث حول ظاهرة التسول، والتنسيق مع مؤسسات المجتمع المدني ذات الاختصاص حسب حاجة الأسرة، وكنا قد قدمنا مشاريع تمكينية للأسرالمتعففة لتمكنها من الاعتماد على نفسها لإخراجها من دائرة الفقر، وكذلك العمل مع وزارة التربية والتعليم لمكافحة ظاهرة تسرب الطلبة كونها جزء من ظاهرة التسول، وتحويل بعض حالات الأطفال المتسولين إلى مراكز حماية وتأهيل متخصصة تابعة للوزارة”.

وشدد موظفو الوزارة على أهمية أن تتضمن بعض البرامج المدرسية تعريفاً للتسول وأضراره، وأن يتوفر مساق لمكافحة ظاهرة التسول داخل الجامعات الفلسطينية ويتم تقديم جائزة سنوية لأفضل جمعية خيرية تساعد على الحد من انتشار هذه الظاهرة، وتفعيل قانون العقوبات على البالغين وأسر الأطفال.

وأضافوا: “الأمر الأخطر في عالم التسول هو أن يتم استغلال الأطفال…فنحن نهتم بهذه الظاهرة لنمنع احتمالات استغلال الأطفال جنسياً أو اقتصادياً أو إقحامهم في دائرة الجرائم المنظمة كالمخدرات، بغض النظر عن الأشخاص أو الجهة الذين يعملون لصالحها، وهناك الكثير من الحالات التي تم ضبطها للأطفال وتم تحويلها إلى مراكز حماية الطفولة، وبعض الحالات نبقيها مع أولياء أمورها ضمن ضوابط وإجراءات معينة، ويرجع ذلك إلى تقديرنا للوضع وما نراه مناسباً، وفي نابلس تم التعامل مع حوالي (20) طفلاً ضُبطوا تحت مسمى التسول وعمالة الأطفال، وبناءً على دراستنا ومتابعتنا فإن المتسولين هم ضحايا لواقع اجتماعي واقتصادي يعيشونه”.

أما عن الصعوبات التي تواجه وزارة التنمية بهذا الخصوص، تابعوا: “لا تتعاون أسرة الطفل الضحية معنا ولا مع مراكز الحماية، بالإضافة إلى عدم وجود قانون رادع لأهالي الأطفال المتسولين، فقط يتم دفع مبلغ غرامة مالية بقيمة 5 دنانير والتي لا تعد عقوبة موجعة لهم”.

وختموا: “نرى أن معالجة هذه الظاهرة مسؤولية مشتركة ما بين المؤسسات الحكومية والخاصة، ولكل منا دوره بتكاملية وحسب اختصاصه، ونحن في وزارة التنمية نبذل كل ما بوسعنا ضمن الإمكانيات المتاحة لمكافحة التسول، وهناك العديد من قصص النجاح التي تم العمل معها ونقلها من ممارسة التسول إلى التأهيل والعمل، ومع بداية عام 2023 ومن ضمن خطة قسم الطفولة سيكون هناك خطة عملية لمكافحة ظاهرة التسول بالتعاون مع الشركاء ذوي الاختصاص”.

الحديث مع المتسولين

في التاسع والعشرين من تشرين الثاني تحت زخات المطر، تفترش الرصيف امرأة كبيرة، بحوزتها تقرير طبي، لم يتبين لنا منه سوى أنه تقرير يفيد بالإصابة بسرطان الثدي، صادر من مجمع فلسطين الطبي برام الله، وبتوقيع من الطبيب ن.ك، وكان اسم المريضة ورقم الهوية مختبئاً بقصاصة صغيرة لسورة الكرسي قد وضعتها في ظرف التقرير.

ليس سهلاً أبداً أن تتحدث مع المتسولين كصحفي، فتبادلنا الحوار دون الإفصاح عن هويتنا، ووجهنا لها عدة أسئلة كانت تتهرب منها ولم نحصل على إجابة شافية، وعند آخر سؤال وجهناه بطريقة مبطنة “ما بتخافي من الشرطة لأنه القانون بعاقب على هاي الجلسة”، فتحولت نظراتها من الانكسار إلى الغضب لكنها حافظت على هدوئها، وقالت: “بتحققن معاي؟ خلص هيك ساعدتوني بديش اشي، رحن”، فتراجعنا.

وفي شارع آخر ولتقرير متسولة أخرى، كانت تحمل تقريراً لزوجها المدعو (م.ا) يرجع تاريخ صدوره إلى شهر كانون الثاني عام 2012 صادر من مستشفى بغزة، لكنها جاءت من القطاع إلى الضفة لتتعالج بالمستشفى الأهلي بالخليل، وهي حالياً تستقل منزلاً استأجرته في قرية الرام، ولم تحضر تقريرَها خوفاً من فقدانه على حد قولها.

“ومن المعروف أن المستشفى الأهلي يوفر سكناً خاصاً لمرضى غزة ومن يرافقهم، إلى أن تنتهي فترة إقامتهم لتقديم العلاج اللازم لهم على نفقة وزارة الصحة، وإن تسول مريض لا يعني أن المستشفى أهملت واجباتها تجاههم” كما أوضح المدير العام للمستشفى الأهلي الدكتور يوسف التكروري.

الاقتراب من المتسولين يعرض حياتك للخطر

ضمن تحقيق نُشر عام 2018 أجرته الصحفية أسماء المسالمة، قالت: “تنكرت بالنقاب وذهبت لمنطقة الدوار بنابلس، وجلست بجانب أكثر من متسولة لأدرس ردات فعلهن، أصرت إحداهن أن أنصرف من جانبها لكي لا أنال من رزقتها، وإحداهن ضربتني بعصا كانت بحوزتها عندما كررت عليها أسئلتي”.

وتابعت: “إحدى صديقاتي التي كانت تراقبني عن بعد اتصلت بي عبر الهاتف، وأخبرتني بأن رجلاً يراقبني منذ جلوسي مع المتسولة الأولى، فتوجهت للمجمع التجاري، وإذ بالرجل يعترض طريقي سائلاً “من أنت، ولماذا تتحدثين مع المتسولات؟”، وعندما سألته عن هويته زعم أنه شرطي ورفض إظهار بطاقته بحجة أنه خارج أوقات الدوام، فانسحبت من المكان فوراً، وفي طريقنا للسكن لاحظنا مركبة بيضاء اللون تلاحق سيارة الأجرة التي نستقلها، لكننا نجحنا بالهرب منه، وعندما توجهت للشرطة في اليوم التالي قالوا لي بأنه ليس شرطياً، فالشرطي يعرف عن نفسِه ويظهرُ هويتَه”.

دور الشرطة

وكنا قد رفعنا كتاباً رسمياً للشرطة في محافظة نابلس لتزويدنا بمعلومات وتفاصيل عن المتسولين الذين يتم ضبطهم وكيفية التعامل معهم، وما إن كان أحد وراءهم، وبالرغم من أنه تمت الموافقة على الكتاب إلا أنهم لم يتعاونوا معنا بالمستوى المطلوب سوى برؤوس أقلام من المعلومات التي تخص حالات الحدث (الأطفال)، وقالوا إنه لم يتم ضبط متسولين بالغين، وعندما عرضنا عليهم قصة الصحفية أسماء المسالمة رفضوا احتمال أن يكون أحد من عناصر الشرطة قائم على أعمال التسول.

التسول المنظم

وبدورنا توجهنا لأصحاب المصالح التجارية القريبة من أماكن جلوس المتسولين، لنسألهم عما يلاحظونه أثناء تواجد المتسولين بقربهم، فقال المواطن (ن.ك) مشيراً إلى مكان جلوس المتسولة الفارغ آنذاك: “تتسول هنا عدة نساء، ويتبدلن من وقت لآخر، فقد تأتي مسنة كرة، وشابة في الكرة الأخرى، صحيح أنهن منقبات لكنني ألاحظ ذلك من العيون، والطفل يبقى معهن هو ذاته دون الاهتمام بالظروف الجوية القاسية على الطفل، وفي مرة من المرات بعد أن اعتادت علينا إحدى المتسولات جاءت لي باكية، وعندما سألتها عن السبب قالت لي إن صاحب العمل أخذ كل المال قبل أن تشتري حتى طعام”.

وفي مُستَقَرٍ آخر قال المواطن (خ.ا): “تأتي المتسولة كل صباح، وفي وقت الظهيرة عندما تُجري اتصالاً هاتفياً، تنسحب من المكان وتأتي غيرها، وفي مرة طلبت منها شرطية الذهاب فرفضت وتشاجرت معها”.

التسول بداية الجرائم العنيفة

قد تصبح الجرائم أسهل للمتسول، وهذا ما أكده استشاري الطب النفسي د.إياد العزة، فقال: “التسول هو بداية الجنوح وانعدام الضوابط، وبالتالي سلوك طرق الإدمان المختلفة، والتي يسوق لها بشكل أسهل في الشارع ومع رفقاء السوء، فهو أول خطوة من طريق الانحراف…كالسرقات، والعنف اللفظي والجسدي، وربما يرتكب جرائم أخطر في حال عدم حصوله على ما يريد، فستكون كل الأمور متاحة للمتسول، وتسهل عليه الجريمة بكافة أشكالها”.

وأضاف: “عالم التسول والمنتمين له  ما هو إلا تعبير عن حالة الفقر العامة، فقر في الاقتصاد والكرامة…والنفس، وقد لا يكون العوز هو الدافع الأول للتسول، إنما تلك النزعة النفسية الإدمانيه لاستعطاف الغير”.

التسول الإلكتروني

لم يقتصر الأمر على أرض الواقع فقط، بل امتد للتسول الإلكتروني عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فكثيراً ما نصادف منشورات على شاكلة “احنا 10 أفراد بالبيت وما عنا أكل ووالدي مريض” ونحوها.

فيقول خبير أمن المعلومات سامي الشيخ بهذا الخصوص: “تعاملت مع أكثر من 20 حالة، منها ما يكون حقيقياً بالفعل…ولكن غالبيتَها تكون مجرد خداع، فعندما نبدأ بالتحقق ويشعرون بجدية الموضوع يتوقفون عن التواصل معنا، أو يرسلون عناوين عامة غير محددة، فندرك أنهم كاذبون، هذا لا يعني أنه لا يوجد محتاجون، لكن يجب أن نتأكد قبل إرسال المساعدات”.

وختم “أعتقد أن عالم التسول عالم منظم سواء كان تقليدياً أو على المنصات الاجتماعية، فإلكترونياً نلاحظ أن العناوينَ موحدة وصحيحة، وحبكةَ القصة ليست عشوائية، ويتم نشر صور للتقارير الطبية ولإعلانات الصحف المزيفة”.