رام الله-المحرر- حسان البرغوثي-وملك الكوع-فلسطينية الطلة، عربية المعالم، من يزرها ويتجول في أنحائها يشتم رائحة وعبق التاريخ، تاريخ أجداد آمنوا إيمانا قاطعا أن حبة تراب من أرضها لا تبدل بكنوز الدنيا، هي كتاب تقرأ بين طياته، جمال تلك الأيام التي غابت عن الأنظار ولم تغب عن ذاكرة أصحابها، شامخة كشموخ جبال القدس.
“كفر توت” تلك القرية التي تقع على قمة جبل يشرف على عدة قرى شمال غرب رام الله من بينها قرية كفرعين والتي تعتبر تابعة لها بكل تفاصيلها، فأراضي قرية كفرتوت ملك لأهالي القرية، وكأنها تقوم بدور المراقب على كل ما يحيط بها وهذه الميزة جعلت عيون الاحتلال تنظر إليها على أنها نقطة إستراتيجية يستطيع من خلالها مراقبة كل القرى التي تشرف عليها.
لم تكن كفرتوت شيئا عاديا لكفرعين وأهلها فهي قلبها النابض لما لها من تاريخ تضرب جذوره إلى العهد العثماني وما قبله، ومن أهم معالمها “البلوطة” أو ما يطلق عليها “بلوطة أبو عويس” ويعود سبب تسميتها ببلوطه أبو عويس وجود قبره تحتها ويقال بأن أحد الأتراك زرعها بعد أن دفن ثروته تحتها كعلامة ليستدل على ما خبأه، ولكن شاءت الأقدار أن تهزم الدولة العثمانية لتخرج من البلاد تاركة وراءها كنوزا دفينة تحت البلوطة حسب الروايات المتناقلة.
ومن معتقدات الأهالي السائدة أن العشب الذي ينمو على قبر أبو عويس كان يستخدم كعلاج لمرضاهم خاصة الحسد بعد التوكل على الله، والغريب في ذلك أن هذه العشبة لا يتم أخذها والحصول عليها -حسب معتقداتهم- إلا بعد وضع راية بيضاء أو إضاءة سراج على القبر.
لم تكن كفرتوت وبلوطتها مكانا أثريا فقط بل كانت منطقة سياحية يستجم عندها أهل القرية والقرى المجاورة وكل من مر بقربها أما من ناحية استغلالها كزراعة فقد كانت تزرع سنة بالقمح وبالذرة البيضاء مرة أخرى لتكون مصدر رزق وغذاء أهلها.
الزائر لقرية كفرتوت يجد بيوتا مهدمة مهملة أهمها بيت زهرة الذي يعتبر رواية منفصلة تحكي قصة أجداد قدسوا ذاك المكان لينقش أسماءهم بحبر لا ينسى فها هو جيل ما بعد الألفين يحكى لهم عن تاريخ أجداد مضوا ولكن آثارهم باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك المكان الذي يعيد للذاكرة قصة فلاح حرث الأرض وزرعها ثم جنى ثمارها.
كان لأرض بلوطة كفرتوت لون خاص بكل فصل، ففي الخريف تراب أحمر يستعد لإستقبال بذور ستكون قوتا لهم، ليأتي فصل الربيع فترى تلك الأرض قد لبست لونها الأخضر من الحنطة والعدس وغيره، ثم يأتي وقت الحصاد ليسترق إلى سمعك أهازيجهم وأغانيهم وتعاونهم الذي يدخل إلى قلبك الفرحة لما فيه من البساطة والمحبة.
فكان فلاح تلك الأرض مكتفياً بذاته معتمدا على نفسه حاملا جزءاً مما جناه ليوزعه على الفقراء والمحتاجين بعد أن يكون قد ملأ بيته بالحبوب مخزنا فيه لأيام قادمة، ولكن هيهات أن يعود الزمان لهذا المكان كما كان.
لم تسلم كفرتوت من خفافيش الليل ومغتصبي أرضنا الذين وجهوا أنظارهم نحو ذاك المكان فأصبحوا يترددون عليه كثيرا لمراقبة المنطقة بأكملها فانعدم الأمان وخاف الناس وبدأوا يبتعدون تدريجيا عن المكان، فقد تحولت من منطقة حيوية تعج بالحياة إلى مكان يشبه الأطلال فلا صراخ لأطفال يلعبون ولا مروج خضراء لفلاح يحصد قمحه بعد تعب.
وتجدد تاريخ تلك القرية المؤلم عام 2004 حيث توجهت آليات عسكرية ضخمة لجيش الاحتلال صباحا لتقتلع بلوطة أبو عويس التي كانت تزين جبل قرية كفرتوت بجمالها وضخامتها فاقتلعت قلوب أهل القرية مع اقتلاعها وغرست الحقد والكراهية في عيون من شاهد تلك البلوطة تهوي على الأرض وكأنها مرتكبة جرما كبيرا وبدأت العقول تتساءل عن السبب الذي دفع الاحتلال لهذا العمل الإجرامي ليزعم المحتل بعدها بأنها مأوى للمقاومين، بينما نفى أهل القرية تلك المزاعم وأن الهدف من اقتلاعها هو سرقة الكنز الدفين تحتها.
كفرتوت لم تعرف “السحاسيل” ولا ألعابا حديثة ولكن كانت بلوطتها “بلوطة أبو عويس” مكانا ترفيها للكبير والصغير والناظر إلى تلك القمة يشعر وكأن كفرتوت تعني بلوطتها، فما عاد المكان ذاته بعد أن اقتلع الاحتلال البلوطة فأصبح الجبل بدونها كطفل فارق أمه.