القدس المحتلة-المحرر-يوسف يعقوب– مكعباتٌ أسمنتية ترابطٌ بلا حدود، تتكدس الأبنية بجانب بعضها، لتضيق المسافات، وعلى بعد مئات الأمتار يرتفع جدار شُيد ليبعد أصحاب المكان عن أرضهم ويُشيع العنصرية، يقف جنود مدججين بالسلاح على حاجز عسكري يمنع أهل الأرض من التوجه إلى مدينة القدس، هنا مخيم قلنديا للاجئين البوابة الشمالية للعاصمة المحتلة.
في الطريق إلى المخيم، وقت الظهيرة كان صوت الآذان يصدح في المكان، طلبة مدارس عائدون من يوم دراسي، وباعة يكفكفون أيديهم وتعلو أصواتهم بحثاً عن أرزاقهم، والكل يسعى نحو أمل وإن كان بعيداً.من هذه الزقاق يدلنا إبراهيم ابن الأحد عشرربيعاً خلال لقائنا به في الطريق إلى بيت أبيه الأسير المحرر مصعب زايد(45) عاماً.
دخل إبراهيم البيت، برهة وخرج الوالد مصعب، الذي غمرنا بحرارة الترحيب، تبادلنا أطراف الحديث ورشفنا القهوة، ومع زوال عبق السيجار من المكان، وبعد السؤال عن حياته بعد أحد عشر عاماً أمضاها في سجون الاحتلال بدأ الحديث”خليني أولع السيجارة، هيك متعود” قال مصعب. تنهيدة فابتسامة “عندما تحررت من الأسر كان لابد من خطوة للأمام،الزواج أول مشروع وبتوفيق من الله رزقت بولدين وبنت”.
كان مصعب بحاجة للاستقرار وللانخراط في حياته الأسرية بعد سنوات من روتين الأسر وحالة اللا استقرار داخل السجن، ينخرط باستمرار مع الوضع العام والحالة النضالية داخل السجن وخارجه.
بدأ مصعب يغوص في أعماق الذاكرة المفعمة بالحياة “قبل الأسر كنت أدق حجارة البناء في محجر قريب، والعودة إلى هذا العمل كان بالنسبة لي يعني استمرار الحياة التي كنت عليها قبل السجن، وهو المكان الذي تم اعتقالي منه،عملت لأشهر، صنعة متعبة والعمر له حق”.
علامات المشقة ارتسمت على وجه مصعب الذي أردف قائلاً “انتهت لذة العودة لعملي السابق، وتوجهت للجامعة لإكمال ما بدأته في السجن، وأسعى للحصول على الشهادة الجامعية، فالتحقت بجامعة القدس المفتوحة”.
الحياة في الأسر والحالة النضالية شكلت للأسير المحرر مصعب حافزاً لتحقيق الذات ورفض الهيمنة الاحتلالية ومحاولة عزل الأسير عن المألوف لأي شخص في الحياة، وهنا أضاف (أبو إبراهيم) الذي أعتقل وكان عمره (19) عاماً وأمضى في الأسر قرابة (11) عاماً :الحياة في الأسر تنقسم إلى ثلاثة أقسام، البداية مرحلة تأسيس الأسير لنفسه، وبعدها تطوير الذات، ومن ثم مرحلة المشاركة والقيادة، وهذه المراحل تأخذ وقتاً”.
في السنوات الثلاث الأولى من الأسر لم يكن مصعب يفهم الواقع الاعتقالي كما يجب، لكنه بعد ذلك عمل على تطوير ذاته من خلال مطالعة الصحف وقراءة الكتب ما أكسبه مهارة الكتابة، فكتب مقالات لم تنشر لصعوبة التواصل مع الخارج، ومن ثم بدأ الانخراط بالعمل النضالي والتنظيمي.
السنوات الخمس الأخيرة لمصعب أبدع فيها، وقاد العمل النضالي داخل السجن، مستفيداً من خبرته التراكمية في الأسر وتطوير ذاته فكرياً ونضالياً.
يقول مصعب “أسوأ مرحلة لي في السجن إضراب 2004 الذي استمر (18) يوماً حيث فقدت وزني ليصل إلى 48 كيلو غراماً، وما زاد المشقة خلال الاضراب الأحداث خارج السجن”.
خلال السنوات الأولى في الأسر والتي أسماها “سنوات الضياع” ومع دخوله اضراب 2004 عاش مصعب لوعة الفراق، فتوفي أبوه وأمه وابن أخيه، فشكلت تلك الأحداث الحزينة نقطة تحول نحو واقع جديد، إلى جانب الأحداث الدرامية في تلك الفترة، وأبرزها اغتيال القادة ياسر عرفات “أبو عمار”، وأحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، بالإضافة إلى سقوط العاصمة العراقية بغداد بيد الاحتلال الأمريكي، فشكلت تلك الأحداث علامات فارقة في قلبه وعقله لا يمكن نسيانها.
اغرورقت عينا مصعب، مسح دمعه، رفع حاجبيه، وقال “مرارة العيش والفقر المدقع أجبرني على ترك المدرسة مبكراً، دخلت السجن لا أفقه شيئاً، السجن أعطاني فرصة واجتهدت وأبدعت ووصلت، أنهيت دراستي الجامعية في العلوم السياسية داخل السجن، وحالياً أكمل دراستي بجامعة القدس المفتوحة في أدب اللغة العبرية”.
بعد مرور سنوات على تحرره، مازال (أبو إبراهيم) يصحو باكراً، يستعد لطابور العدّ الصباحي حكماً لنظام الواقع الاعتقالي في السجن الذي اعتاد عليه لسنوات، ظناً منه أن السجان أحكم قبضته على الأسرى بعد تحررهم، فكان هذا الواقع غرسةً تنمو جذورها بالأرض وترنو نحو الحرية.
مصعب ابن مخيم قلنديا للاجئين الذي رصف الطريق من أبنائه شهداء وجرحى وأسرى، مازال رغم التضحيات الجسام يعتقد جازماً رغم صعوبة المرحلة وقسوتها أن الحرية آتية لا محاله، فشعب يرفض الخنوع، ويأبى ألا أن تكون له مكانة تحت الشمس، سينعتق يوماً ما من الاحتلال، وستكون آلام الماضي ثمناً لمستقبل مشرق.