رام الله-المحرر-روند نعسان- “إذا استشهدت ازرعوا زيتونة على قبري”، هذه كانت وصية رائد نعسان (21) عاماً لوالده غازي، عندما ذهب معه ليساعده بزراعة الزيتون، لم يكن يعلم غازي أنه سيودع ابنه، ويغرس مع كل شجرة زيتون ألماً وذكريات، ليتلحق بأبنه الشهيد بعد أقل من عام.
ما إن انتهى ذلك اليوم، حتى عاد غازي يحمل ابنه على أكتافه شهيداً، رائد الذي كان أسيراً ثم جريحاً ها هو يرحل شهيداً، ودع غازي فلذة كبده، ليرسم خطوات بالدموع والألم.
غازي أب ذو قلب طيب، لايرى بالكون بأسره سوى عائلته الصغيرة، ترعرعوا في أحضان حب الوطن، ورثوا العادات الحسنة من والدهم، والذي ورثها هو أيضاً عن والده الذي رحل شهيداً خارج الوطن بعد أن أبعدته سلطات الاحتلال بينما كان غازي أسيراً وعمره (27) عاماً، فحرم من عطف الأب ولم يشبع منه، إذ لم يعايشه إلا في مرحلة الطفولة وهذا ترك جرحاً في قلبه.
لم يلتق غازي بوالده لسنوات طويلة بسبب إبعاده، بينما كان هو أسيراً. تميز غازي بطيبة قلبه وحنيته، أحب أن يسرد لعائلته قصصه القديمة، ونضالاته، وتجاربه في الماضي، شهادة النضال لغازي تتجسد في مشاركته الفاعلة في الانتفاضتين الكبرى و”الأقصى”، كان دائماً يتقدم الصفوف الأمامية للمسيرات ضد الاحتلال، ورغم تعرضه لمشاكل جسيمة جراء قنابل الغاز التي يطلقها الاحتلال على المشاركين في تلك المسيرات استمر في التصدي للاضطهاد بكل اصرار، وامتدت روح المقاومة في عروق أولاده الأربعة الذين اتبعوا خطاه.
عيونه مليئة بالأمل، وتفاصيل حياته مفعمة بالحيوية، والروح المرحة، كلماته ترسم الابتسامة على وجه من يجالسه، قلبه الذي تذوق مرارة الحياة وقسوتها، أحب الماضي بتفاصيله وتجاربه الكثيرة، روحه الخفيفة أينما حلت أسعدت، مكانه المفضل الطبيعة بجبالها وسهولها، أحب العطاء والخير للناس، اعتاد على مساعدة الناس في كل شيء، عشق قريته المغير بمحافظة رام الله والبيرة وجعلها قلبه النابض بين ثنايا جسده، أينما ننظر وفي كل مناسبة نجده حاضراً.
(57) عاماً هي سنوات عمره، أمضاها (أبوعيد) دفاعاً عن أرضه ووطنه، بصماته النضالية في كل مكان، وفي صفحات التاريخ الفلسطيني، أمضى في سجون الاحتلال ما يربو على(12) عاماً كانت أولها عام 1984، وفي تلك الفترة تعلم الكتابة والقراءة، وأبدع بكتابة الشعر، أشعل شرارة حب الوطن بين أفراد عائلته، لُيأسر الاحتلال أولاده الأربعة على فترات مختلفة.
في ايلول ، انطلقت مسيرة من أراضي المغير لشارع “ألون” الاستيطاني للاحتجاج على اعتداءات المستوطنين، فارتقى طفل من أطفالها شهيداً برصاص الاحتلال، ذهب غازي مسرعًا حينما أصيب الطفل محاولاً إنقاذه رغم كثافة النيران، وسحب الغاز المسيل للدموع، الأمر الذي أدى إلى وقوعه أرضاً، تم نقله إلى المستشفى وأُجريت له بعض الفحوصات ليكتشف أنه يعاني من مرض السرطان، وبدأ رحلة معاناته مع المرض الخبيث، استطاع أن ينسج أمله من خيوط ألمه وأبقى على نفسيته الايجابية والقوية واستمر في إلهام الآخرين بتفاؤله وقدرته على التصدي للمرض كما عهده محبوه صلباً لا يلين.
لم يستسلم غازي لهذا المرض، وكان يقول “الحمدلله أنا بتنفس وقادر أمشي، ليش أخاف من المرض اللي كاتبه ربنا بصير”. وعلى الرغم من صعوبات العلاج إذ لم يسمح لعائلته بمرافقته إلى المشفى أثناء جلسات الكيماوي، حيث كان يتلقى العلاج ويعود إلى حضن أسرته الدافئ، بقيَ مصمماً على مواصلة نضاله، وتصديه للاحتلال.
وبعد أن تلقى العلاج شعر بالتحسن النسبي، وبدأت الأمور تأخذ المنحنى الايجابي، ولكن أتى الخبر الذي صدم قلبه، لتبدأ رحلة معاناته بالفقد، استشهد رائد خلال التصدي لقوات الاحتلال التي اقتحمت القرية بتاريخ 29-11-2022. رحل ذلك الشاب اليافع الوسيم ليشتعل قلب الأب بلوعة الفراق مجدداً، رحل من كان رفيقه بمسيرة النضال والدفاع عن القرية، رصاصة واحدة كانت كفيلة بإنهاء حياة الابن وهدّ حيل “الأب”، شهور قليلة وتفاقم المرض في جسده.
أصبح القلب مكسوراً وحزيناً بفقدان فلذة كبده، كانت أمنيته الوحيدة تتمثل برؤية أبنائه بأفضل حال، لكنهم هاهم يبترون حلمه، ويدفنون أمنياته برصاصة حاقدة.
لحظة الفراق الأليمة اتسمت بالمرارة حينما لم يتسن لأشقاء رائد وداعه إذا كانوا يقضون فترات حكمهم في سجون الاحتلال، كل هذا الألم تسبب بتدهور صحة غازي، وقبل اكتمال العام على وداعه ولده الشهيد، وقبل عشرين يوماً من حلول الذكرى الأولى لاستشهاده، استسلمت الروح لبارئها، فارق غازي الحياة في تشرين الثاني هذا العام ليلتحق بابنه، وليتكرر المشهد، السجن الذي غيّب أشقاء رائد عن وداع شقيقهم الشهيد، ها هو يغيّب شقيقهم الأكبر (عيد) عن وداع أبيهم، غاب القلب النابض في هذه الأسرة، غاب غازي النعسان، لقد هزمه المرض هذه المرة وقهره الظلم.
ضاعت الأحلام في “تشرين” الثقيل، واندثرت الأمنيات والصمت عمّ المكان، وبقيت ذكرى أبو عيد تُخلد في أزقة قرية المغير وحواكيرها وحاراتها، وذكراه الطيبة ستبقى ماثلة لا تمحوها السنون، فجيل يسلم الراية لجيل.