أكد أن الأزمة الحالية غير مسبوقة على الإطلاق نتيجة تضافر أربعة عوامل في الوقت ذاته
*القطاع المصرفي مازال قلعة صامدة في ظل الأزمة الحالية وهو قادر على المرور منها
*شعار “الانفكاك الاقتصادي” الذي رفعته الحكومات المتعاقبة استراتيجي لكنه اصطدم بعقبات التنفيذ.. واليوم مطالبون بإعادة هيكلة الاقتصاد لتعزيز القطاعات الإنتاجية
*يجب اصلاح النظام الضريبي لينتصر للفئات الفقيرة وخاصة في ضريبتي “القيمة المضافة” و”الدخل”
*الدولار سيبقى على عرش العملات العالمية حتى عام 2025 على الأقل
* 67 مليار دولار الخسائر الاسرائيلية بسبب الحرب لكن الاحتلال لا يعير انتباهاً للموضوع الاقتصادي لأنه يعتقد بأنه يخوض حرب وجود
رام الله-المحرر-أيهم أبوغوش-توقع الخبير الاقتصادي د. نصر عبد الكريم أن تصل نسبة الانكماش في الاقتصاد الفلسطيني مع نهاية العام الجاري إلى 15-20%وهي نسبة غير مسبوقة وتحمل مخاطر وآثار اقتصادية كارثية.
وخالف د. عبد الكريم في لقاء مع “المحرر” توقعات البنك الدولي التي أعلن عنها بداية العام بأن الانكماش سيتراوح بين 6.5 إلى 9.5%، مشيراً إلى أن الوضع الاقتصادي الحالي هو الأسوأ الذي تمر به الأراضي الفلسطينية بسبب تضافر أربعة عوامل في هذه المرحلة لم يسبق أن تضافرت في أي مرحلة سابقة وهي: نهب أموال المقاصة، ووقف العمالة داخل الخط الأخضر، وتدمير قطاع غزة وإخراجه عن النشاط الاقتصادي، وارباك التجارة الداخلية من خلال خلق المعيقات وعدم تمكن فلسطينيي 48 من الانفاق في أسواق الضفة الغربية.
وطالب د. عبد الكريم باستغلال الأزمة الاقتصادية الحالية لإعادة هيكلة الاقتصاد الفلسطيني بزيادة الاعتماد على القطاعات الإنتاجية وتقليل الاعتماد على ضريبة المقاصة في الايرادات العامة من خلال تخفيض الاستيراد ودعم المنتجات المحلية، مشيراً إلى أهمية إعادة هيكلة النظام الضريبي ليكون أكثر عدالة تجاه الفئات من ذوي الدخل المحدود وبخاصة في ضريبتي “القيمة المضافة” و”الدخل”. وفيما يلي نص اللقاء:
توقعات متشائمة بخصوص الانكماش
*الاقتصاد الفلسطيني يعاني على كل الصعد حالياً لأسباب معلومة، كان هناك توقعات للبنك الدولي بأن يشهد الاقتصاد الفلسطيني مع نهاية العام الجاري انكماشاً يتراوح بين 6.5 إلى نحو 9.5 % تقريباً، إلى أي حد تتوافق مع هذه التوقعات؟
الصورة القائمة ليست سارة، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار السيناريو الأمني القائم، فما بالك إذا تطور هذا السيناريو نحو الأسوأ، لا سيما إذا استمر العدوان على قطاع غزة، وتوسع العدوان في الضفة الغربية، ومضت الحكومة الإسرائيلية المتطرفة في الضغط الاقتصادي على الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية التي تعد مشروعاً سياسياً كان يفترض أن يتطور إلى دولة، لذا الاحتلال الاسرائيلي لا يريد لهذا الكيان السياسي الفلسطيني أن يظل قائماً، لأن قادة الاحتلال لديهم انطباع بأنه في اليوم التالي لانتهاء الحرب ربما ينشأ لوبي دولي للضغط على الاحتلال للدخول في تسوية لحل الصراع، ولهذا فإن وجود السلطة الوطنية على الأرض واعتراف معظم دول المجتمع الدولي بدولة فلسطين يجعل اليمين الإسرائيلي قلقاً، كونه يريد حسم الصراع بعيداً عن أي طرف سياسي فلسطيني، وهذا ما يعملون عليه حالياً، فإذا نجح الاحتلال في فصل قطاع غزة عبر حكم عسكري ومنع عودة السلطة الوطنية إلى هناك، ثم فرض خطته في الضفة بضم المستوطنات وقضم الأراضي، حينها سيصعب الحديث من الناحية الفعلية عن كيان فلسطيني قابل للحياة اقتصادياً على أراضي 1967 في ظل هذا التمزيق للأراضي الفلسطينية، وإذا نجح الاحتلال في تطبيق هذا السيناريو لن تكون صورة الاقتصاد الفلسطيني وردية، ولكن إذا حصل السيناريو الآخر وهو الأكثر تفاؤلا بتوقف العدوان على قطاع غزة خلال الشهرين المقبلين، وإذا ساعدت نتائج الانتخابات الأمريكية بافراز طرف يساعد على تطبيق حل الدولتين، ونجح الأوروبيون من خلال بعض الدول الصديقة والمحايدة في فرض أجندة سياسية في المنطقة بالتعاون مع دول عربية تقود إلى مفاوضات تذعن فيها “اسرائيل” إلى تسوية نهائية بموجب قرارارت الشرعية الدولية، حينها تفتح الآفاق الاقتصادية بشكل واسع، بحيث يبقى قطاع غزة متصلاً بالضفة الغربية باعتبارهما أراضي الدولة الفلسطينية، وحينها يمكن الحديث عن إمكانية التعافي الاقتصادي. لكن الشعب الفلسطيني حالياً يعيش في معاناة كبيرة، فها نحن نقترب من مرور عام على بدء الحرب والصورة لم تتغير كثيراً، بل زادت تعقيداً، فكثير من المواطنين فقدوا خياراتهم الاقتصادية سواء من كان لديه مدخرات أو أصول، إذ تم استنفادها خلال الأزمة الحالية، وحتى الشركات وبخاصة المنشآت الصغيرة استطاعت أن تستمر طيلة هذه الفترة لأنه كان لديها مخزون احتياطي، لكنها اليوم تعاني بفعل تراجع ايراداتها ولم تعد قادرة على تسويق منتجاتها في محافظات أخرى بسبب صعوبات في التنقل وغيرها من المعيقات، لذلك اضطرت للاستغناء عن أيدي عاملة، ومن هنا يمكن القول إن وضع سوق العمل اليوم مقلق جداً، فحسب الجهاز المركزي للاحصاء تبلغ نسبة البطالة تقريباً 35%، لكن إذا أخذنا المفهوم الموسع للبطالة بمعنى أن يتم احتساب الذين يئسوا من ايجاد فرصة عمل ولم يعودوا يبحثون عنها، فربما تصل نسبة البطالة في الضفة الغربية إلى 40-45%. لذلك أرى أن الصورة عن سوق العمل ليست ايجابية خاصة في ظل تعنت الحكومة الإسرائيلية في موضوع عودة العمال إلى أعمالهم داخل الخط الأخضر، وربما نشهد انضمام مزيد من خريجي الجامعات إلى سوق البطالة، وهذا مقلق على صعيد الاستثمار في قطاع التعليم، خاصة إذا أصبح هناك تراجع من الطلبة وأهاليهم على صعيد الالتحاق بالتعليم العالي بسبب الظروف المالية الصعبة، وهذا ربما يقود لاحقاً إلى إعادة ترتيب أولويات المجتمع فيما يتعلق بالتعليم، فقد يكون مفيداً على صعيد الإقبال على المهن، ولكن من ناحية ثانية التعليم الأكاديمي يظل مهماً لأنه يسهم في نشر العلم ومحاربة التجهيل، لذا بدأنا نشهد مؤخراً تراجعاً في عدد الملتحقين بمعظم التخصصات في الجامعات، ولذلك الصورة ليست مبشرة بخصوص سوق العمل.
وحتى قبل أحداث 7 تشرين الأول حينما انخفضت نسبة البطلة في الضفة إلى 13% لم يكن ذلك نتيجة توليد ذاتي لفرص العمل وإنما كان بسبب استيعاب السوق الاسرائيلي لقرابة 180-190 ألف عامل من الضفة وغزة. وبالتالي حرمان هؤلاء من التوجه إلى أعمالهم لا يؤثر فقط على هؤلاء العاملين، وإنما يطال التأثير بشكل مباشر قرابة مليون إنسان في الضفة وغزة، وهؤلاء كانوا غالباً ينفقون في أسواق الضفة الغربية وكانوا يشترون خدمات وسلعاً ويحركون العجلة الاقتصادية، ولذلك البطالة تقود إلى فقر وهنا الخطورة، ولذلك حسب التقديرات انعدام الأمن الغذائي في الأراضي الفلسطينية وصل قبل أحداث 7 تشرين الأول إلى 10% أي طال نحو 300 ألف شخص، واليوم الرقم تضاعف حتماً، والتقديرات تشير إلى نحو 650 الف شخص شملهم انعدام الأمن الغذائي وربما يكون العدد أكبر من ذلك أيضاً.
النمو الاقتصادي هو نتيجة كل هذه العوامل مجتمعة من عمالة واستهلاك خاص واستثمار خاص واستثمار عام واستهلاك عام، ومن هنا أعتقد أنه يجب إعادة النظر بخصوص التراجع المتوقع في الناتج المحلي الإجمالي، لذا أتوقع أن يصل الانكماش في الضفة الغربية وحدها إلى 15%، أما قطاع غزة فعملياً كان يساهم بنحو 4 مليارات دولار في الناتج المحلي الإجمالي أي نحو الخمس، أما قبل الانقسام فكان يساهم بنحو الثلث، وبالتالي مساهمة غزة في الناتج المحلي فقدت تقريباً، فمع نهاية هذا العام نكون عملياً خسرنا 3 مليارات دولار، واذا اعتبرنا أن نسبة التراجع في الضفة الغربية كانت 15% فهذا يعني فقدان قرابة ملياري دولار إضافية، أي المتوقع أن يكون حجم التراجع بنحو 5 مليارات دولار من أصل قرابة 20 مليار دولار، وبالتالي نتحدث عن انكماش ربما يصل إلى 15-20%، وهذا الانكماش لم يسبق له مثيل حتى في ظل الأزمات الكبرى مثل الاجتياحات خلال انتفاضة الأقصى أو خلال جائحة كورونا. وسبب هذا التراجع الكبير في هذه الحرب أن هناك أربع قضايا تضافرت في الوقت نفسه، الأولى قضية نهب الاحتلال لضريبة المقاصة بحجب 50-60% من تلك الضرائب تحت عدة ذرائع، والثانية توقف العمالة داخل الخط الأخضر، والثالثة تدمير قطاع غزة وإخراجه عن النشاط الاقتصادي، والرابعة ارباك التجارة الداخلية وارباكها مع العالم وحرمان فلسطينيي 48 من التسوق في أسواق الضفة، هذه العوامل مجتمعة لم يسبق لها أن تضافرت في الوقت نفسه.
الحل السياسي فقط هو من يجلب الرخاء الاقتصادي
*اليمين الاسرائيلي العنصري كشف عن مخطط لافقار الضفة، وصولا إلى فكرة التهجير الطوعي وهذا تجلى عبر أكثر من طريقة بما فيها حرمان العمال من العودة إلى أعمالهم داخل الخط الأخضر ونهب أموال المقاصة، كيف ترى إمكانية التصدي لهذا المشروع الاستيطاني؟
يوجد صراع داخل “اسرائيل” حول نظرتهم المستقبلية للعلاقة مع الفلسطينيين، ووضع الضفة الغربية، فالأجهزة الأمنية للاحتلال تحذر من انفجار الضفة الغربية، ولهذا تطالب بأمرين: أولاً السماح بعودة العمال إلى داخل الخط الأخضر، وثانياً الإفراج عن أموال المقاصة، هذا الطلب رفض من قبل اليمين المتطرف، لكن من الواضح أن الموقف الاسرائيلي ليس موحداً تجاه الضفة الغربية ومستقبلها، فالمخططون الاستراتيجيون في “اسرائيل” يدركون أنه بدون حل سياسي مع الشعب الفلسطيني لا يمكن توفير الأمن للإسرائيليين، ولهذا يدرك هؤلاء أن الحل السياسي هو من يجلب الأمن والرخاء الاقتصادي، عكس تماماً ايديولوجيا اليمين المتطرف بقيادة نتنياهو الذي تخلى عن فكرة “الأرض مقابل السلام”، ليأتي بفكرة “السلام الاقتصادي”، ثم تخلى عنها لصالح فكرة “الأمن مقابل السلام”، ولهذا نظريته بنيت قبل 7 تشرين الأول عى قاعدة أن يحصل الإسرائيليون على الأمن مقابل توفير نوع من الانتعاش الاقتصادي للضفة، ولهذا شهدنا لمدة نحو عامين زيادة في أعداد العمال داخل “الخط الأخضر” وتحسن في التجارة، وبدأت الأمور الاقتصادية تتحسن في الضفة الغربية بعد جائحة كورونا. لكن قصة “الأمن مقابل الاقتصاد”، بعد أحداث 7 تشرين الأول تغيرت بالنسبة للاحتلال بأنه لا يريد أن يوفر انتعاشاً اقتصادياً بينما يشعر بتهديد أمني، ولكن هذه النظرية لدى اليمين الإسرائيلي لن تصلح، لذا فإن المخططين الاستراتجيين لدى الاحتلال يعرفون أنه لا يمكن شراء الأمن مقابل نوع من الانتعاش الاقتصادي، وإنما هي قضية شعب يبحث عن استقلاله الوطني وانعتاقه من الاحتلال، فحتى الانتفاضتين الأولى والثانية لم تندلعا نتيجة أسباب اقتصادية، بل جاءتا في ظل ظروف اقتصادية نوعا ما جيدة، لكن الاحتلال أدرك أن هذا الصراع ليس اقتصادياً ولا تجارياً، وإنما صراع لنيل الحرية والاستقلال، ولهذا فإنهم يعرفون أنه مهما ضيقت على الفلسطينيين اقتصاديا فإن ذلك (لا شعباً ولا قيادة) يدفع لتقديم تنازلات سياسية، ولا توفير نوع من الرخاء الاقتصادي يجعل هذا الشعب يتخلى عن الرغبة في التحرر والانعتاق من الاحتلال ونيل الاستقلال الوطني.
دعوة لإعادة هيكلة النظام الضريبي
*ولكن ما هو المطلوب فلسطينياً للتعامل مع كلا السيناريوهين، سواء ذهب الاحتلال للتضييق الاقتصادي أو لنوع من الانفراج الاقتصادي؟
البلد لا ينقصها خطط، فالاستراتيجيات التي جاءت بها الحكومات المتعاقبة موجودة وهي استراتيجيات ممتازة تمتلك رؤية واضحة، لكن المشكلة عادة في التنفيذ، فهامش ترميم العلاقات الفلسطينية الداخلية سيكون له أثر أكثر بكثير من هامش الفعل الاقتصادي، والفعل السياسي قد يجلب مزيداً من المساحة للفعل الاقتصادي، ولهذا مطلوب توحيد الصفوف وتوسعة المشاركة الجماهيرية في صناعة القرار وإجراء عمليات اصلاح، فبدون إنهاء حالة الانقسام وتوحيد الخطاب والرؤية سيكون من الصعب أن يكون هناك معالجات اقتصادية كافية.
ولهذا يمكن القول إن شعار “الانفكاك الاقتصادي” الذي طرحته الحكومات الفلسطينية المتعاقبة كان جداً مهم من الناحية الاستراتيجية، لكنه لم ينجح على الأرض ربما بسبب المنهجية ووجود بعض المصالح الضيقة، لكنه كشعار استراتيجي مهم ويجب إعادة النظر في إعادة هيكلة الاقتصاد الفلسطيني من جديد بعيداً عن التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، كما يجب إعادة النظر في حجم النفقات الحكومية وفق المعطيات المتوفرة، ولهذا لا يمكن تغييب مشاركة الفئات المجتمعية المختلفة عن القرارات الاقتصادية، كما يجب إعادة النظر في توزيع الأعباء الضريبية لتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية، فهذا النظام القائم حالياً فيه نوع من الانحياز للشركات الكبرى، ونحن نتحدث هنا عن وجوب إعادة النظر في ضريبة الدخل وقيمة الضريبة المضافة، فلا بد من قوانين جديدة تأخذ في الاعتبار حصيلة النقاش المجتمعي وعدم حصر النقاش بهذا الخصوص على كبار رجال الأعمال، بل يجب إشراك ممثلي المستهلكين والعمال والمزارعين والفئات المجتمعية المختلفة، وحتى الآن ورغم طرح مشروع قانون حول قيمة الضريبة المضافة وكان جيداً من الناحية المبدئية من خلال تصفير قيمة القيمة المضافة في بعض السلع الأساسية ورفعها على سلع تعد أكثر رفاهية، غير أنه لم ير النور حتى الآن.
وكذلك الأمر فيما يتعلق بضريبة الدخل، التي ينبغي أن يتضمن شرائح أكثر تصاعدياً، فيليس مطلوباً مشاركة الأغنياء في أرباحهم، ولكن مطلوب ضريبة أكثر عدالة، فلماذا تقف أعلى شريحة في ضريبة الدخل عند نسبة 15%؟ ودول العالم المختلفة أقرت في المنتديات الدولية المختلفة ورغم معارضة بعض الرأسماليات العالمية أن يكون الحد الأدنى لضريبة الدخل للشركات ليست أقل من 22.5%، فليس عدلاً أن يدفع فرد على دخله الشخصي 15%، بينما تدفع شركة كبرى تحقق أرباحاً كبيرة نفس النسبة، كما يجب إعادة رفع الإعفاء الضريبي لتشمل الأفراد الذين دخلهم الشهري 5 آلاف شيقل فأقل، وهو المبلغ الأدنى اللازم للاستهلاك الأساسي، ولهذا يمكن تقسيم ضرائح ضريبة الدخل إلى 5%، و10%، و15%، و20%، و25%، و30%، وفقاً لمستويات الدخول المختلفة، وهذا سيكون أكثر عدالة من النظام السائد. فالاصلاح الضريبي أصبح ضرورة، كما يجب إعادة النظر في حجم النفقات العامة وبخاصة في فاتورة الرواتب، ولا بدّ كذلك من توفير الحماية الاجتماعية للعمال الذين تعطلوا عن أعمالهم، كما يجب البحث عن سبل لتوفير الحماية للمزارعين ودعمهم، وتعزيز الثقافة الوطنية للاستهلاك مع تعزيز أساليب المقاطعة، ولهذا فإن هناك العديد من القضايا التي تستحق المتابعة ويمكن للإعلام أن يسلط الضوء عليها، ومن هنا أعتقد أنه وجب إعادة بناء الهيكل الضريبي على أسس تحقق نوعاً من العدالة الاجتماعية.
إمكانية تقليل الاعتماد على ضريبة المقاصة
*السلطة الفلسطينية تمر بأزمة مالية منذ عدة سنوات، ولكنها تعمقت بعد أحداث 7 تشرين الأول في ظل عمليات النهب التي تتعرض لها ضريبة المقاصة التي تشكل نحو 68% من ايرادات الخزينة العامة، ما هي الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتجاوز هذه المرحلة الصعبة؟
أنا أعتقد أن هناك إمكانية لتخفيف الاعتماد على ضريبة المقاصة، فهذه الضريبة وصلت نسبتها إلى 68% من إجمالي الايرادات لأننا اعتمدنا بشكل كبير على التجارة والاستيراد، فحجم التجارة الخارجية يصل سنوياً إلى نحو 11 مليار دولار، حجم الصادرات فقط قرابة 1.5 مليار دولار والباقي عمليا هو حجم الواردات أي نحو 9.5 مليار دولارـ تشكل الورادات من “اسرائيل” نحو 55% منها، بينما نحو90% من الصادرات إلى “اسرائيل”، ولهذا طالما أن الجانب الإسرائيلي هو من يقوم بجباية ضريبة القيمة المضافة والجمارك على الحدود، وما نشتريه من “اسرائيل” يكون بفاتورة ضريبية موحدة، فبكل تأكيد سوف نظل نعاني، ولهذا فإن الحكومة اليمينية المتطرفة تقوم بعمليات نهب لأموال المقاصة عبر طرق مختلفة، بل أن ضريبة المقاصة نفسها قد تراجعت، ولهذا يجب التفكير بتقليل الاعتماد على الاستهلاك والاستيراد لصالح تعزيز عمليات الإنتاج، وذلك من خلال اعتماد برنامج صناعي زراعي برؤية حكومية شاملة تشارك فيها الوزرات المختلفة. ومن هنا، يمكن القول بأن تركيز السياسية المالية على الاستيراد أضرت بالقطاعات الإنتاجية، وقدمت للإسرائيلي أداة ضغط جديدة من خلال “المقاصة”، وأضعنا فرص عمل محلية، ولهذا من الناحية الاستراتيجية يجب إعادة هيكلة الاقتصاد الفلسطيني ليعتمد أكثر على دعم القطاعات الإنتاجية، وهذه الأزمة قد تشكل فرصة لتحقيق ذلك.
القطاع المصرفي صامد رغم عمق الأزمة
*القطاع المصرفي في أية دولة يعد المحرك الأساسي للاقتصاد من خلال توفير التسهيلات الائتمانية اللازمة لتمويل المشاريع الاقتصادية، كيف ترى قدرة القطاع المصرفي الفلسطيني على الصمود في ظل هذه الأزمة المالية الصعبة خاصة إذا استمرت الحرب لعام آخر؟ وما مدى مخاوف سحب ودائع من البنوك للاستثمار في الخارج؟
يجب عدم المبالغة في هذا الموضوع، لذلك كنت منتقداً للعديد من التحليلات المتعلقة بوزير المالية الاسرائيلي بتسلئيل سموتريش بخصوص قطع العلاقة مع القطاع المصرفي الفلسطيني، وأنا كنت أقول بأن ذلك لن يحصل لأن هناك مصالح مشتركة بين الطرفين، والبنوك الفلسطينية والوافدة لديها بدائل حتى لو قطعت العلاقة مع الجانب الاسرائيلي، وحتى وإن حدث ذلك على المستوى الاستراتيجي قد يكون مفيداً على صعيد التفكير بوقف الاستيراد من “اسرائيل” وإعادة دراسة كافة العلاقات الاقتصادية، ولكنه قد يكون سلبياً كذلك على صعيد تعزيز التجارة غير الرسمية، ولكن هذه الخطوة إن تمت لن تضر بالاقتصاد الفلسطيني وحده، ولا أظن أن الاحتلال سيلجأ إلى هذه الخطوة.
أما أزمة تكدس الشيقل فلا علاقة لها بهذا الموضوع، فتاريخياً لدينا مشكلة تتعلق بتكدس لشيقل بين 4-5 مليارات دولار، والآن قد يكون زاد المبلغ قليلاً، لكني لا أراها في سياق مختلف عن الأزمات السابقة، وإنما تراكمت لسبب يتعلق بمخاوف المواطنين الذين أصبحوا يميلون على ايداع أموالهم في البنوك نتيجة الأوضاع الحالية، كما أن الحركة التجارية تقلصت بفعل الوضع الاقتصادي الحالي وتسببت بتراجع الواردات والاستهلاك، فتوجهت رؤوس الأموال والمواطنون لايداع أموالهم في البنوك، وجزء من الأزمة قد يكون مرتبطاً بأسباب أخرى، ومثلما نجحت سلطة النقد دوماً في علاج المشكلة ستبقى تنجح في هذا المجال، لأنه لا يجوز لبنك اسرائيل ألا يقبل استلام عملته، فهو ملزم قانوناً باستلامها، لأن خطوة كهذه ستهز الثقة بالبنك المركزي الاسرائيلي، وهذه خطوة لا تريدها “اسرائيل”.
الأزمة الحقيقية أمام البنوك هو كيفية استثمار الأموال التي لديها سواء على شكل تسهيلات ائتمانية أو استثمار في البلد، بحيث تبقى أقل ضرراً عليها، وأعتقد أنها نجحت لغاية الآن في هذا الأمر، فصحيح أن أرباحها تراجعت، وصحيح أن نسبة الديون المشكوك فيها زادت إلى 8% بدلا من 2%، وتسببت بتقليل الأرباح الدفترية، جزء من معالجة هذا الملف كان إعادة جدول القروض لموظفي القطاع العام، ورغم أنني ضد هذه المعالجة من خلال تحميل موظفي القطاع العام فوائد أو عمولات جديدة من خلال إعادة جدولة القروض وإطالة مدتها، لكنها خطوة ساهمت في تقليل نسبة الديون المتعثرة. أنا كنت أميل إلى معالجة أخرى تتعلق بإعادة توزيع المتأخرات على الأقساط الشهرية المتبقية مقابل فائدة متدنية إدارية فقط، لأن هذه الفئة عملياً هشة اقتصادياً ولديها أعباء كبيرة.
البنوك اجمالا مازالت هي القلعة الصامدة، وهي لديها قدرة على التحمل أكثر من موظفي القطاع العام وإن كان ذلك على حساب تراجع أرباحها قليلاً، وإجمالاً القطاع المصرفي مازال متماسكاً ومازال يحقق أرباحاً من عملياته التشغيلية في الضفة الغربية، ولا اعتقد أنه مهدد مستقبلاً وسيمر من هذه الأزمة حتى لو ساءت الأوضاع الأمنية، فالقطاع المصرفي يتخذ سياسات حذرة واحترازية وكثير من البنوك تتبع سياسة الإقراض مقابل ضمان الراتب، ولكن الحالة الوحيدة التي يمكن أن تتصدع فيها البنوك هي انهيار السلطة الوطنية، وهذا مستبعد تماماً، لأن الكيانية الفلسطينية قائمة رغم كل مخططات الاحتلال.
الدولار سيظل على عرش العملات العالمية
*عالمياً، مازالت الولايات المتحدة تقود العالم اقتصادياً، ومازال الدولار العملة الدولية الأولى على مستوى التعاملات التجارية الدولية وعلى مستوى الاحتياطات النقدية، إلى أي مدى سيظل الدولار قوياً في ظل انتشار العملات الرقمية وفي ظل محاولات دولية لإعادة تشكيل العالم اقتصاديا من خلال من خلال “بريكس”؟
رغم كل المحاولات لايجاد بديل عن الدولار، غير أنني أعتقد أن هذه العملة ستبقى على عرش العملات العالمية حتى عام 2050 على الأقل، والسبب بسيط أنه لا يوجد حتى الآن عملة تستطيع أن تحمل حمل الدولار، فالناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة يصل إلى نحو 25 تريليون دولار، وهذا يشكل ربع الناتج المحلي العالمي، كما أنها الدولة التي تعدّ رائدة التكنولوجيا في العالم بغض النظر عن اتفاقنا مع سياساتها من عدمه، فالقيمة السوقية للشركات الخمس الكبرى فيها تعادل اقتصاد الصين الدول الثانية من حيث حجم الاقتصاد، وإذا أضفنا الشركات الأخرى تصبح تعادل الاقتصاد الصيني وأوروبا مجتمعة، فثقل الدولار لم يأت فقط من فك ارتباط العملات الوطنية بالذهب وربطه بالدولار، وإنما من ثقل الاقتصاد العسكري الأمريكي، ولذلك من أجل إحداث التغيير في هيمنة الدولار لابد من إعادة بناء الاقتصادي العالمي، في عام 2008 نشأت “بريكس” كردة فعل على الأزمة المالية العالمية وتحمست الدول لإيجاد بديل للدولار، وكانت هناك محاولات لإحداث التغيير لكنها لم تستطع أن تقلع، فالدولار بقي يهيمن على نحو 63% من الكتلة النقدية في العالم.
فحتى لو اتفقت دول “بريكس” على أن تتم تبادلاتها التجارية بعملة أخرى غير الدولار لن يحدث تغييرا كبيراً بشأن هيمنة العملة الأميركية، فمن أجل اتمام صفقات تجارية حجمها بتريليونات الدولارات لا بد من عملة تتمتع بكتلة نقدية كبيرة على مستوى العالم، وهذه غير متوفرة حتى الآن، ودول “بريكس” لا تستطيع أن تستغني عن تبادلاتها التجارية مع الولايات المتحدة التي تتم بعملة الدولار، ولا تستطيع أن تستغني عن استثماراتها في السوق الأميركي، لذلك ايجاد عملة عالمية بديلة للدولار في الوقت الحالي أمر صعب، لكن تعزيز المنافسة أمر وارد وأسهل، لذلك دول “بريكس” يمكنها أن تسهم في إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي بأخذ دور أكبر لدول الجنوب والشرق في المؤسسات الاقتصادية التي تهيمن على الاقتصاد العالمي وفي مقدمتها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمة. فدول العالم تربطها مصالح كبيرة مع الولايات المتحدة، ومحاولات “بريكس” جريئة، لكني لا أعتقد أنها يمكن أن تنتج عملة بديلة عن الدولار حتى عام 2050. من ناحية ثانية، صحيح أن الاقتصاد الصيني كبير وهو الثاني على مستوى العالم، لكن من أجل أن يعادل الاقتصاد الأميركي يحتاج على الأقل إلى رفعه إلى 125 تريليون دولار مع وقف النمو في الاقتصاد الاميركي أخذا بعين الاعتبار نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في كلا البلدين، فعدد سكان الصين خمسة أضعاف سكان الولايات المتحدة.
دول العالم الثالث يجب أن تتعلم من تجارب دول نمت باقتصادياتها مثل رواندا وماليزيا، من خلال الاستثمار في التعليم وتعزيز الحوكمة وأسس الحكم الرشيد.
استبدال الشيقل بعملات أخرى
*هناك الكثير من”الهرج والمرج” وربما تضخيم الكثير من الأمور على منصات التواصل الاجتماعي بخصوص العديد من القضايا الاقتصادية، وكان آخرها دعوة للمواطنين للتخلص من الشيقل وشراء عملات أخرى، كيف تقيم ما يجري على منصات التواصل الاجتماعي بهذا الخصوص وهل هذه دعوات منطقية؟
أتابع بعض هذه التصريحات والدعوات باستهجان، لأنها عفوية وليست مبنية على منطق علمي، أما فيما يتعلق بتخلي المواطنين عن ادخار الشيقل يظل خياراً فردياً، فالشيقل عملة وظيفية وليست عملة ادخار، فحتى في الذهنية الفلسطينية هي عملة غير محببة وفرضت علينا فرضاً بسياسة أمر الواقع الاحتلالية، لذلك تظل مسألة تخلي أفراد عنها كعملة ادخار فهذا شأنهم، لكن هل يستطيع الاقتصاد الفلسطيني برمته الاستغناء عن الشيقل؟، هذا هو السؤال، وإذا تم اتخاذ قرار بالاسغناء عن الشيقل بماذا سيتم استبداله بالدينار أو الدولار؟ ، اين سيتكدس الشيقل؟ الإجابة طبعاً داخل البنوك، ولنفترض أنه تم اتخاذ قرار جمعي بذلك، لكن العلاقات الاقتصادية القائمة حالياً هي مع “اسرائيل” وبالتالي نحن ملزمون بهذه العملة، ومن أجل تغيير مركز الشيقل في الاقتصاد الفلسطيني على المستوى الكلي وليس الفردي لا بد من تغيير طبيعة العلاقات الاقتصادية أولا.
الاحتلال لا يعير انتباها للخسائر الاقتصادية
*كيف ستؤثر الحرب الحالية على الاقتصاد الاسرائيلي؟
التقديرات أن خسائر الاحتلال الاسرائيلي بسبب الحرب قد تصل إلى 250 مليار شيقل مع نهاية العام الجاري أي نحو 67 مليار دولار، وقد يزيد تأثيرها على المدى البعيد، لكن مع مرور الوقت في حالة إنهاء الحرب تأثيراتها تقل تدريجياً. التأثير الأكبر على الاقتصاد الإسرائيلي سيكون في حالة توسع الحرب مع لبنان أو مع ايران، لكن حالياً تم استنفاد كافة المخصصات المالية الخاصة بالحرب، ولكن الاحتلال الإسرائيلي لا يقدم حالياً الاعتبار الاقتصادي على الاعتبارات السياسية، فاليمين الإسرائيلي يعتقد أن الاقتصاد القوي يجب أن يخصص لصالح المشروع الاستيطاني، وهو يعتقد أنه يخوض حرب وجود مهما كانت الكلفة مرتفعة.