د. حياة نوفل*
عزيزي القارئ،
هل أنت شخص يقدر النظام والالتزام بالتعليمات؟ هل تجد نفسك غالبًا ترتب أغراضك بدقة أو تشعر بالإحباط بسبب أي خلل في روتينك؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد تكون ساعياً إلى الكمال أو تعاني من أعراض اضطراب الوسواس القهري. من المهم أن نفهم أن اضطراب الوسواس القهري يتجاوز مجرد النظافة أو التنظيم، فهو حالة نفسية طويلة الأمد يمكن أن تؤثر بشكل كبير على الحياة اليومية، من العمل والعلاقات الاجتماعية إلى التعامل مع المسؤوليات.
غالبًا ما يُساء فهم اضطراب الوسواس القهري أو يُرفض باعتباره سلوكًا غير عادي، لكنه أكثر تعقيدًا بكثير. ففي جوهره، ينطوي اضطراب الوسواس القهري على الشعور بالإرهاق من أفكار أو أفعال محددة ومستمرة تصعب السيطرة عليها. يتكون اضطراب الوسواس القهري من عنصرين رئيسين، هما: الهواجس، والسلوكات القهرية. فالهواجس هي أفكار أو صور مزعجة غير مرغوب فيها تسبب الضيق والقلق، مثل مخاوف التلوث، أو إيذاء النفس، أو الآخرين، أو الحاجة إلى النظام المثالي. أما القهر فهو سلوكات متكررة، مثل غسل اليدين بشكل مفرط، أو التحقق من قفل الأبواب، يتم إجراؤها في محاولة لتقليل القلق. ولكن لسوء الحظ، لا تقدم هذه الأفعال سوى راحة مؤقتة، لكنها لا تحل المشكلة الأساسية. بل إنها بدلاً من ذلك تبقي الشخص في حلقة محبطة من الأفكار الوسواسية والأفعال المتكررة التي تجعل حياته اليومية صراعاً مستمراً.
ويتجلى اضطراب الوسواس القهري في أشكال مختلفة، كل منها يقدم تحديات فريدة. على سبيل المثال، ينطوي هوس النظافة على خوف شديد من الجراثيم، ما يؤدي إلى التنظيف المفرط أو تجنب أماكن معينة. على النقيض من ذلك، تدفع السلوكات القهرية الأفراد إلى التحقق والتأكد مراراً وتكراراً مما إذا كان قد تم القيام ببعض الأعمال مثل قفل الباب، أو إيقاف تشغيل الأجهزة. من ناحية أخرى، تسبب وسواس التنظيم، الذي يعطي الشعور بعدم الراحة ما لم يكن كل شيء مرتباً ترتيباً صحيحاً، أو مرتبًا بشكل مثالي. في حين أن هذه السلوكات القهرية قد تختلف، إلا أنها تشترك جميعًا في الإلحاح الشديد لأداء مهام محددة أو اتباع روتين معين. من المعروف أن أسباب اضطراب الوسواس القهري غير مؤكدة، ولكن تشير الأبحاث إلى أن الاضطراب ينتج عن تفاعل معقد بين العوامل الوراثية والعصبية والبيئية؛ إذ إن الأفراد الذين لديهم تاريخ عائلي مع اضطراب الوسواس القهري يكونون أكثر عرضة للإصابة به، ما يشير إلى وجود عامل وراثي للإصابة بالاضطراب. كما أظهرت دراسات التصوير العصبي وجود خلل في بنية الدماغ ووظائفه لدى المصابين بالاضطراب، وبخاصة في المناطق المسؤولة عن التحكم بالنبضات وتنظيم القلق.
بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي اختلالات التوازن في النواقل العصبية مثل السيروتونين دورًا في أعراض الاضطراب. يمكن للعوامل البيئية، مثل الصدمات أو التغييرات الحياتية المهمة، أن تؤدي أيضًا إلى تفاقم الأعراض لدى الأفراد المهيئين.
يتطلب تشخيص اضطراب الوسواس القهري تقييمًا شاملاً من قبل أخصائي الصحة العقلية بناءً على معايير ثابتة، مثل تلك الموجودة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، فهذا التشخيص ضروري لتحديد شدة الأعراض وتأثيرها على حياة الفرد.
وعادةً ما يتطلب العلاج الفعّال لاضطراب الوسواس القهري أداةً أو نهجًا متعدد الأوجه. يُعد الإرشاد المعرفي السلوكي، وبخاصة تقنية التعرض ومنع الاستجابة، أحد طرق التدخل الأكثر فاعلية. يهدف هذا التدخل الإرشادي إلى تعريض الفرد لمصادر قلقه تدريجيًا مع منعه من تنفيذ السلوكات القهرية التي يستخدمها للتخفيف من حدة القلق. بمرور الوقت، يبدأ الفرد في تطوير قدرته على تحمل القلق دون الحاجة إلى الانخراط في هذه السلوكات، إضافة إلى استخدام الأدوية التي تساعد على تقليل حدة الأعراض وتحسين نوعية حياة الفرد المضطرب. كما أن الدعم العائلي والتثقيف النفسي حول اضطراب الوسواس القهري هو جزء أساس من التدخل. من المهم أن يفهم المصابون وأسرهم طبيعة الاضطراب، وأن يكتسبوا استراتيجيات للتعامل مع تحدياته، ما يساعد في تقليل الضغط وتوفير بيئة تشجع على الشفاء. إضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون تقنيات مثل اليقظة والاسترخاء أدوات فاعلة للمساعدة في إدارة القلق وتحسين التحكم العاطفي.
في الختام، اضطراب الوسواس القهري يتجاوز مجرد الاهتمام بالنظافة أو الترتيب. فهو اضطراب نفسي معقد يتطلب فهماً أعمق وتدخلاً علاجيًا متكاملاً. بفضل التطورات في أساليب الإرشاد المتاحة والتوعية المتزايدة حول طبيعة الاضطراب، يمكن للأفراد المصابين أن يجدوا الأمل والتحسن في جودة حياتهم. تعد كل حالة من حالات الوسواس القهري فريدة من نوعها، ولكن باستخدام التدخلات الإرشادية المناسبة والدعم المتواصل، يمكن تحسين الصحة النفسية للمصابين بشكل ملحوظ.
* دكتوراه الإرشاد التربوي والنفسي-جامعة القدس المفتوحة