د. حسن بشارات*
احتلال متواصل وحرب إبادة تستهدف الكل الفلسطيني، اغتيالات، واعتقالات، وإغلاقات، مقاطع فيديو تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي صادمة، وأخبار عاجلة متتالية كل خبر يحمل معه من الألم ما لم يقوَ عليه العقل، كل هذه الأحداث والمواقف يتعرض لها الفلسطيني يومياً في ظل ظروف معقدة وانعدام الرؤية لما هو قادم مع استمرار وإصرار آلة البطش الصهيونية بأن تترك الأثر الصادم لأجيال تتناقل رواية شعب تعرض لهذا الكم من الغل والاضطهاد والعنف لأنه مؤمن بأحقية الوجود كباقي شعوب العالم والإنسانية جمعاء.
التساؤل المطروح ما قد تخلفه هذه الحرب من آثار على الصحة النفسية للمواطن الفلسطيني؟
لا شك أنه وعبر (76) عاماً يتعرض الشعب الفلسطيني لمحاولات الإبادة والتهجير من وطنه بدءاً من النكبة للنكسة مروراً بانتفاضة الحجارة الى انتفاضة الأقصى وما بينهما، وصولاً لما خلفته أحداث السابع من أكتوبر من حجم للدمار والفتك وازدياد أعداد الضحايا من الشهداء والمفقودين والمعتقلين. ومازال الاحتلال يذعن ببطشه وقهره للإنسان الفلسطيني، وكل ذلك كاف لخلق الأثر الكبير على مستوى قدرة الفرد على تجاوز تلك الصعاب والأحداث وما قد يتلقاه من صدمات تعيق استمرارية الحياة لديه بالبحث عن المعنى الوجودي.
الصدمة النفسية وكما عرفها الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية هي حدث مفاجئ يتعرض من خلالها الفرد لألم شديد أو خطر يهدد حياته، ولكنها بالسياق الفلسطيني تبدو معقدة أكثر ومختلفة عما عرفه الدليل التشخيصي، كون الصدمات الفلسطينية مستمرة وتميل هنا للصدمة المعقدة والمركبة والمتكررة الأحداث لفترة زمنية طويلة، لأن الفلسطيني يعيش ضمن بيئة محفوفة بالمخاطر الدائمة، وهذا النوع قد ينتج عنه أعراض تؤثر على الجهاز العصبي، ويدخل الفرد لحالة من التوتر المستمر ومن الترقّب الدائم لحماية نفسه، وبالتالي تدهور الثقة بالنفس وصعوبة التحكم بالمشاعر وحالة التجنب لبعض الأشخاص أو المواقف.
وفي ظل تزايد أعداد الضحايا من الشهداء والمفقودين تظهر صدمة الفقدان العنيفة التي يتعرض لها كل البشرية بوجه عام، ولكنها بقدر معروف وبنسبة طبيعية، ولكنها بالبيئة الفلسطينية الحالية مختلفة بالقدر والخبر والظروف، فحين نجد الأم الفلسطينية تستقبل خبر استشهاد ابنها وتقول “الحمد لله فداء للأقصى”، ونسمع الأب الفلسطيني يتلقى خبر وفاة عائلته ويقول” الحمد لله شهداء”، وغيرها من المشاهد الكبيرة على ذلك، ندرك بلا شك أن الصدمة النفسية في السياق الفلسطيني مختلفة، فبدلاً أن تنتقل مراحل الفقدان بالعادة بتسلسل مراحلها من حالة تبلد المشاعر لنكران الحدث للغضب للاكتئاب للتقبل، نجد الفلسطيني يبدأ بمرحلة التقبل، وتأجيل كل المراحل، ويستمر بالعمل والتنقل والنزوح لحماية ما تبقى من عائلته، وهذا جاء من قوتين أساسيتين يتميز الفلسطيني بإتقانهما، أولهما: استخدامه لآليات الدفاع باستخدام الكبت فيؤجل الحزن والألم، فالظروف لا تتيح له الاستسلام ويعزز صموده فوق صموده، ويستمر لأنه يدرك أن الاحتياج الأهم الآن الانتقال للمكان الأكثر أمناً مشكلاً بذلك مخزوناً ينتقل للعقل الباطني، وهذا ما يحتاج لتدخل بعد انتهاء تلك الأزمة من أجل التعافي وتفريغ المكبوت، وثانيهما: أن لدى الفلسطيني ونتيجة الخبرات الطويلة من المواقف والأحداث المتتالية القدرة والقوة للتحكم وتحدي كل الظروف والمتغيرات لإيمانه بالله وبعدالة قضيته وإنسانيته وحقه في أرضه المسلوبة، وهذا ما يطلق عليه الصلابة النفسية.
صدمات نفسية متتالية وبكل أنواعها يعيشها الفلسطيني ويبقى الفقدان الملتبس والغامض جزءاً مؤرقاً مضافاً للصدمات في واقعنا، والذي يعرف بالفقدان الذي لا يكون واضحاً أو مؤكداً، ويحدث عندما يكون الشخص مفقوداً جسدياً، ولكنه حاضر نفسياً في ذاكرة الأسرة الفلسطينية، فسياسة الاحتلال القديمة المتجددة في ظل هذه الظروف الدائرة بحجب المعلومات التي تنهي الغموض بمصير المفقودين وازدياد حالات احتجاز جثامين الشهداء، قد يخلق مشاعر حزن مستمرة وقلقاً وإحباطاً وصعوبة في إتمام الحداد وفي القدرة على التعافي، لأن الفقدان هنا غير مكتمل وغير مؤكد، وهذا ما يجعل حالة التكيف أكثر صعوبة، فاعتاد الإنسان على إلقاء نظرة الوداع الأخيرة ليصل لحالة من التأكد من خبر الوفاة، ومن ثم مواراة جثمانه الثرى لتقبل أن الفقدان أصبح واقعاً، وهذا ما لا يحدث مع الغموض بمعرفة المصير، ويبقى الأمل مفتوحاً ما بين العودة والفقدان، وكم من أم تنتظر ابنها الشهيد أو المفقود عائداً.
في النهاية، إن أساس التعافي من الصدمات بكل أنواعها هو الشجاعة التي من خلالها يستطيع الفرد أن يتحدث عنها، وهنا تبدأ مرحلة التقبل والاعتراف بالمشاعر، وتختلف المدة اللازمة للتعافي حسب الفروق الفردية بين الأفراد وقدراتهم وامكانياتهم والحصول على الدعم من خلال معالج نفسي للمساعدة في معالجة المشاعر للتخلص من آثار الصدمة، وتجنب الإصابة باضطرابات جسدية ونفسية طويلة الأمد.
*دكتوراه في الإرشاد النفسي والتربوي