رام الله-المحرر-شروق مالك جبريل وآلاء عيسى رحمة- من إهمال المذاكرة والتسكع مع رفاق العمر في الطرقات إلى مقاومٍ بارزً، مراد وليد البرغوثي (51) عاماً، عاش طفولته في أعماق مخيم اليرموك، حيث الهواء مشبع بروح الثورة، بين أحضان والده الطبيب والمدرب العسكري في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، الذي غرس فيه حب الوطن والشجاعة منذ صغره، ليلتحق لاحقاً بالعمل المقاوم، قبل أن يقع في براثن سجانيه، وما هي إلا سنوات من الأسر إلا ويشاء القدر أن يجمعه بشقيقه أصيل خلف القضبان.
كانت حياة مراد تتراقص على إيقاع النضال؛ فمخيم اليرموك لم يكن مجرد مكان للعيش، بل كان مدرسةً صقلت شخصيته وقوت عزيمته.
ينتمي مراد إلى أسرة فلسطينية تفتخر بتاريخها النضالي، فانسابت إليه روح المقاومة متأثراً بوالده وعائلته، فبدأت مشاركته في الأنشطة الشعبية التحريرية، لينتقل بعدها من هامش الحياة إلى صلبها.
من التسكع إلى النضال
مع بلوغه سن الرشد عاد مراد إلى قريته كوبر بمحافظة رام الله والبيرة، حيث كانت الحواجز الإسرائيلية أمامه أكثر من مجرد خطوط عسكرية، بل تحولت إلى ساحة معركة ضد الاحتلال، فقرر أن يتخذ من شوارعها وحواجزها ساحة لمقاومته، فبدأ بالانخراط في المظاهرات والاحتجاجات.
أدركت والدته ذلك نظراً لغيابه المتكرر، وحماسه الشديد أثناء مشاركته في هذه المظاهرات، فكانت والدته بقلب الأم المفعم بالحبِ والخوف تلحُ عليه بالتوقف، لكن مراد له رأيٌ آخر، فكان يجيبُها:” يما عندك كمان ولدين بكفوكي بكرة بتحطي صورتي مع غصن زيتون”.
تأسيس خلية كوبر
بالتعاون مع صديقه المقرب جاسر البرغوثي أسس مراد خلية كوبر التي أصبحت قلب الصمود في المنطقة، حيث نفذت الخلية عدة عمليات نوعية ضد الاحتلال، ما أثار الرعب في صفوف جنوده، وشكلت رمزاً من رموز القوة، كما ألهمت مزيداً من الشباب الذين آمنوا بحتمية التحرير.
الشرارة التي أشعلت الثورة
أصبح مراد أكثر إصراراً بعد أن تعرضت والدته للإهانة من قبل أحد جنود الإحتلال على حاجز سُردا، فتلك الحادثة قد أشعلت نار الغضب في قلبه، فقرر الانتقام لشرف والدته وكرامة شعبهِ، فنظر للجندي متجهماً وقد لبس الغضب محياه، قائلاً:” إنت تفيت على إمي فاحفظ وجهي لأني راجعلك في أحد الأيام“.
ولشدة غضبهِ الصارخ، عاد مراد في اليوم ذاته مع عصبة من أفراد الخلية، وتمت تصفية الجنود المتواجدين على الحاجز، ومنهم الجندي المعتدي على والدته الذي حاول الفرار، لكنه تمكن منه، واغتنم سلاحه، وتبعاً لذلك أجبر الاحتلال على إزالة الحاجز.
التدريب في لبنان
لم يكتف مراد بالعمليات الصغيرة فقط، بل قرر الذهاب إلى لبنان والتدرب على يد حزب الله، وتطلبت هذه المهمة الكثير من المخاطر، فعبر الحدود الأردنية متنكراً بزي راعي أغنام، ليتمكن من الوصول إلى معسكرات التدريب.
خلال فترة تدريبه، تعلم مراد أسرار الحرب، وأصبح أكثر كفاءة في تنفيذ العمليات العسكرية، فلحظة وصوله إلى فلسطين، قاد خلية كوبر لتنفيذ عدة عمليات، منها استهداف الطرق الالتفافية التي كانت بمثابة حصونٍ للاحتلال.
العمليات البطولية
لم تكن تلك العمليات مجرد محاولات عابرة، بل كانت محطات مضيئة في طريق الكفاح، كان من أبرزها عملية عين يبرود التي أسفرت عن مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين و إصابة آخرين، امتدت العمليات إلى مناطق آخرى مثل سلواد والمزرعة الغربية، فأصبحت هذه الخلية كابوساً يلاحق قوات الاحتلال في كل مكان.
الاعتقال والحكم
بعد سنواتٍ من الكفاح، تمكنت قوات الاحتلال من كشف خلية كوبر، واعتقال أعضائها في(20) كانون الأول 2003. اعتقل مراد بتهمة المشاركة في تنفيذ عدة عمليات عسكرية أسفرت عن مقتل وإصابة أكثر من(20) جندياً إسرائيلياً. كما مرّ بفترة تحقيق قاسية لمدة لا تقل عن أربعين يوماً تعرض بسببها لغيبوبة. وأصدرت محكمة الاحتلال بحقه حكماً بالسجن لـ(9) مؤبدات و(50) عاماً.
لقاء الشقيقين خلف القضبان
أصيل البرغوثي أصغر أشقاء مراد، كان يشتاق إليه كثيراً، وحين بلغ أشُده، سلك الطريق ذاته في النضال، ليكون مصيره هو الآخر الأسر، فبعد مطاردة دامت(40) يوماً، اعتقل الاحتلال أصيل، وكان يبلغ آنذاك(28) عاماً. وأُرسل إلى سجن “عوفر”. في اللحظة التي عبر فيها بوابة الزنزانة، استقبله السجناء بحرارة، وكأنهم يشعرون بمعنى اللحظة التي يعيشها أصيل.
كان أصيل يمر بين الوجوه، عيناه تنتقل بينهم باحثةٌ عن ملامح يحفظُها. وفجأة على بعد خطوات ظهر وجه مألوف، وجه يحمل ملامح الذكريات البعيدة. الأصوات سكنت، وكأن الزمن توقف، تقدم أصيل نحو شقيقه، واحتضن كل منهما الآخر بقوة، انسكبت الدموع كما يتفجر الينبوع من باطن الأرض، لم يجد سبيلاً إلا أن يجري. بكيا معاً لا على فراق السنوات الطويلة فحسب، بل على قسوة الحياة التي جعلت السجن مكان اللقاء الوحيد.
في تلك اللحظة، بين صلابة القضبان ولين القلوب، أدرك أصيل أن التضحية التي قدمها لم تذهب سدى. وفي ظل تلك المشاعر المتضاربة، جلسا معاً على الأرض الصلبة، وبدأ الحديث عن الماضي والحاضر، والسؤال عن الأقارب والمستقبل الذي كانوا يطمحون في الوصول إليه، لحظات لا تنسى أمضاها الشقيقان في السجن حيث أصبحا أقرب من أي وقتٍ مضى.
ذكريات مشتركة بين الجدران
أمضى مراد وأصيل عشرة أشهر معاً في السجن، فكان مراد يعامل شقيقه كأبٍ وصديق في الوقت نفسه، عَلم مراد شقيقه الكثير عن النضال والمقاومة، وكان يدعمه نفسياً في كل المواقف، تلك الأشهر القليلة كانت عندهما من أجمل لحظاتهم معاً.
الأمل في الحرية
رغم القسوة التي عاشها مراد وأصيل في السجون، إلا أن الأمل لم يفارقهما أبداً، حلمهما بالعودة إلى الوطن، وأن تتحقق الحرية لشعبهما مازال يستوطن أذهانهما.
ها هي رحلة مراد، التي انطلقت من حلمٍ صغير في مخيم اليرموك، تتوج اليوم بإرثٍ عظيم من النضال والبطولة، رحلة تروي للعالم بأسره أن الأمل في الحرية لا يزول، وأن فلسطين ستظلُ دوماً شامخة على قمم الجبال، رغم الرياح والعواصف، تسير بثبات نحو النصر.