رام الله – المحرر – ميرا أحمد فياض وبغداد ياسر كراجة
بين أراضي قريتها صفا الكثيفة بأشجار الزيتون والخروب والتين، ومدينة رام الله، قلب الضفة الغربية، كانت صمود كراجة (36) عامًا، تنسج قصة فتاة فلسطينية تكبر في ربوع وطنها باحثة عن الحرية، لتصطدم بقسوة السجان. كان لها من اسمها نصيب، فصمدت وتحولت إلى أيقونة للمرأة الفلسطينية التي ترى في الوطن بوصلة تقود أهدافها وتطلعاتها من الحياة.
وُلِدت في بلدة صفا غرب محافظة رام الله عام 1988، ومرّت بتجارب صعبة، وعلى الرغم من سنوات المعاناة داخل السجون، استطاعت صمود أن تكتب قصة انتصار على الألم، وتعود بعد سنوات من الأسر لتكون منارة للأمل، مؤكدة ألا شيء يمكن أن يوقف حلم الحرية.
حياة في ظل الاحتلال
عاشت صمود طفولةً محفوفة بالتحديات في بلدة صفا، حيث واجهت يوميًا الحواجز العسكرية والاقتحامات. تتحدث عن تلك الفترة قائلة: “ما عشته جعلني أعي قسوة الاحتلال. كنت أرى الحواجز والمواجهات يوميًا، وشهدت الحروب، كحرب غزة عام 2008. كل هذا أيقظ داخلي إحساسًا عميقًا بالظلم والاضطهاد، وولّد لدي رغبة قوية للدفاع عن وطني”.
بداية النضال
خلال دراستها في جامعة القدس المفتوحة، انضمت صمود إلى جبهة العمل الطلابي. شاركت في مظاهرات واعتصامات سياسية. وفي عامها الثاني بالجامعة، اعتُقلت بتهمة محاولة طعن جندي إسرائيلي على حاجز قلنديا في 20/10/2009، وكان عمرها حينها (21)عامًا. تقول:”عندما بدأت تجربتي في الأسر، كنت مدركة لما ينتظرني، لكن عيش المعاناة شيء آخر. كان الأمر أشبه بدوامة مظلمة”.
تجربة الأسر
واجهت صمود تحقيقًا قاسيًا استمر شهرًا كاملاً في العزل الانفرادي. تحكي عن تلك الأيام وعيونها ممتلئة بالدموع:”تعرضت لتهديدات بهدم منزلنا واعتقال عائلتي”. كان شعور الخوف على إخوتها أشبه بسكين ينغرز في قلبها. لم تكن تميز الوقت أو الأيام، إلى درجة صعبت عليها إمكاينة تحديد مواعيد الصلاة، اضطرت لاستخدام أعقاب السجائر لتكتب على الجدران أيام لأسبوع والتاريخ، ومعها تعدّ الأيام،لكن ساعة السجن ليست كساعة الحرية، فكان الوقت يمر عليها ثقيلاً.
رغم الأساليب القاسية، رفضت الاعتراف بأي تهمة، ما أدى إلى نقلها إلى سجن “هشارون”، حيث التقت بالأسيرتين الفلسطينيتين قاهرة السعدي ولينا الجربوني. تقول:”رؤيتي لصبرهن ومعاناتهن، خاصة الأمهات، زادني قوة. كنت أرى فيهن نماذج للصمود الفلسطيني”.
الإضراب عن الطعام
خاضت صمود إضرابين عن الطعام، الأول كان لتسعة أيام نقلت خلاله إلى سجن الدامون. أما الثاني، فكان جماعيًا للمطالبة بإخراج الأسرى من العزل الانفرادي. كان صمود أول من يبدأ الإضراب وآخر من ينهيه.
رحلة “البوسطة”.. عذاب بلا حدود
خلال(21) جلسة محكمة، كانت صمود في “البوسطة”، تشعر خلالها وكأنها تودع العالم. كان الاحتلال يوقظها في تمام الثالثة صباحًا لينقلها في ظل أجواء من البرد القارس، بين سجون عدة، تقضي أيامًا داخل “البوسطة”. كانت الوحدة المسؤولة عن النقل، ‘النحشون’، تتعامل معها بلا رحمة، فيرفضون تلبية أدنى احتياجاتها الأساسية مثل شرب الماء أو استخدام الحمام، انتباها شعور بأنها تتجمد، لكن كانت تستجمع قواها، لترفض الانكسار لإرادة المحتل.
زيارة العائلة
خلال عامين، زارتها عائلتها ثلاث مرات فقط، وكل زيارة كانت تسغرق (45) دقيقة. أصعبها كانت الأولى؛ قائلة” لم نتحدث، لكن دموعنا وعيوننا قالت كل شيء”.
الحرية عبر صفقة تبادل
في عام 2011، أُفرج عن صمود ضمن صفقة “شاليط،” حيث خرجت من السجن في 18/10/2012، وكان عمرها(23) عامًا. تحكي عن اللحظات الأولى لسماعها خبر الإفراج”كنا في زنزانتنا نتحدث عن أحلام بسيطة، كتناول شاورما أو صينية بطاطا من صنع أمهاتنا. فجأة، سمعنا هتافات الأسيرات: ‘يا صبايا، رح نروح!’، وسمعنا صوت أمهاتنا على الراديو. كانت لحظة مفعمة بالفرح والقلق، ولم نستطع النوم من شدة التفكير”.
الحياة بعد الأسر
بعد الإفراج، واجهت صمود صعوبة في التأقلم مع الحياة. فما بعد الأسر ليس كما قبله، للحظة انتابها شعور بالحزن كونها حرة، وهناك أسرى مازالوا يقبعون في السجون. قررت استكمال تعليمها، فالتحقت بمعهد مسرح “الحارة” بتخصص “تصميم أزياء مسرحي”، وتخرجت عام .
العمل والإنجازات
رغم أنها لم تتزوج، اختارت صمود أن تستثمر وقتها في العمل وتحقيق إنجازات. اشترت قطعة أرض وأسمتها ‘أم السعد’، وهو اسم استوحته من شخصية في رواية غسان كنفاني، تعدّ رمزًا للأم الفلسطينية الصبورة الحاملة للوطن. كما أنشأت حضانة للأطفال أشرفت عليها بنفسها، لتعتبر الأطفال أبناءها الذين لم تلدهم.
أصبح صمود مصدر إلهام للعديد من النساء الفلسطينيات، فهي ليست قصة فردية، بل هي امتداد لنضال جماعي لا يتوقف.
إرث من الصمود
رغم المعاناة التي عاشتها صمود في زنازين الاحتلال، لم يتركها الأمل يومًا. ظل حلمها بالحرية ورؤيتها لوطنٍ ينهض من تحت الركام يسكن أعماقها، يضيء دربها وسط ظلمات الأسر. ها هي رحلتها، التي بدأت من قرية صفا، تتوج اليوم بإرث من الصمود والنضال، قصة تروي للعالم أن معركة الحرية لا تنتهي مع الإفراج، بل تستمر بإرادة لا تنكسر. ستظل فلسطين شامخةً، تكتب حكايات النصر على جبين الأجيال، تسير بثبات نحو غدٍ مشرق رغم العواصف.