رام الله – المحرر – دعاء خلف وسلام منصور – في الطريق للعاصمة القدس، وعلى بعد(2) كيلو متر منها تجذبك عشرات المنازل والأشجارالمتناثرة عبرالوادي الأخضر، إنها بقايا قرية لفتا الفلسطينية المهجرة، التي ما تزال شاهدة على تمسك أهلها بحق العودة.
كانت قرية لفتا واحدة من كبرى القرى المحيطة بالمدينة، تمتد بجمالها من باب العامود حتى باب الخليل، مرورًا بشارع صلاح الدين. تلك الأرض التي زرعها أهلها بعرقهم وحبهم، امتزجت بذكرياتهم، وبقيت شاهدًا على حضارة لا تُنسى، رغم الجراح.
عراقة القرية وحياتها اليومية
يقول ضياء معلا الرئيس السابق لجمعية لفاتا ” كان أهل لفتا يعيشون في وئام، تُزيّن علاقاتهم الاجتماعية بالمحبة والتعاون، مشيراً إلى أن القرية كانت تتكون من خمس حمايل هي: الصفران، والعيدة، والغبن، ومقبل، وسعد، والتي شكلت نسيجًا متماسكًا”.
ويضيف” لكل حمولة مختارها وساحتها الخاصة. كانت الحياة بسيطة لكن غنية؛ الأفراح تستمر أسبوعًا كاملًا، ويُدعى لها الأهالي من خلال صلاة الجمعة. العرسان يُزفّون على الخيل، والنساء يتهيأن بأثواب فلسطينية تُحيكها أيديهن بعناية”.
في ساحة العين، حيث يجتمع السكان، كان الحوضان رمزًا للتنظيم والتآزر: أحدهما للبشر، والآخر للمواشي. هنا كانت النساء يغسلن الملابس، ويحملن الجرار إلى البيوت، بينما كانت الحياة تسير بوتيرتها اليومية.
الإبداع في البناء والزراعة
تميّزت بيوت لفتا بجمال حجارتها وقوتها، فقد كان أهل القرية خبراء في قصّ الحجر وبناء البيوت. عملهم في الكسارات وصناعة الشيد جعلهم من أثرياء المنطقة، يشاركون في بناء القرى المجاورة ويدعمون الاقتصاد المحلي. زراعتهم لم تكن تقتصر على الاكتفاء الذاتي؛ بل كانت فائضة تُباع في أسواق القدس. والعنب، والزيتون، والخروب، والسماق، والصبار، كانت جزءًا من غنى أراضيهم الخصبة.
الثورة والمقاومة
مع بداية الثلاثينيات، بدأت الرياح تتغير. شهدت القرية تصاعدًا في النضال ضد الانتداب البريطاني، حيث كان أهل لفتا في طليعة المدافعين عن الأرض. في عام 1936، التحم أبناء القرية بثوار عبد القادر الحسيني، الذين شكّلوا فصائل مقاومة منظمة.
لكن مع تصاعد المد الصهيوني ووصول عصابات “الهاغاناه” و”الأرغون”، تغيّرت المعادلة. بدأ الاحتلال يضع مخططاته للسيطرة على أراضي القرية التي باتت تُشكل هدفًا استراتيجيًا، لامتدادها وقربها من القدس.
مجزرة المقهى وبداية النكبة
في مساء 28 كانون الأول 1947، دخلت عصابات صهيونية متنكرة بزي مدني إلى مقهى القرية، حيث كان يجتمع كبار رجال لفتا. أمطرت الرصاص على الجالسين، لتُسفر الجريمة عن استشهاد سبعة وإصابة اثني عشر مواطناً. كانت المجزرة بمثابة الشرارة التي دفعت بالخوف إلى قلوب الأهالي، وأعلنت بداية رحلة الهجرة والعذاب.
بدأت العصابات بقصف المنازل وزرع الرعب، ولم يجد الأهالي بُدًا من ترك قريتهم المحبوبة. توالت الهجرات، من لفتا إلى القرى المجاورة كدير ياسين، وعين كارم، والمالحة، ثم إلى المنافي البعيدة.
الحفاظ على الذاكرة
رغم النكبة، بقيت لفتا في قلوب أهلها وذاكرتهم الحية. في السبعينيات، اجتمع أبناؤها لتأسيس جمعية لفتا الخيرية، بهدف الحفاظ على الترابط بين الأجيال، وصون موروثهم التاريخي. أصبحت العودة إلى القرية جزءًا من الهوية الوطنية، حيث ينقل الأجداد قصص لفتا إلى أحفادهم، وهم يتجولون بين طلال البيوت والحارات القديمة.
في عام 2012، نجح أهل لفتا في إلغاء مخطط إسرائيلي لتحويل القرية إلى منتجع سياحي للأثرياء. اعتبروا هذا النصر رمزيًا، كونه يُعيد تأكيد حقهم التاريخي في أرضهم.
شوكة في عنق الاحتلال
اليوم، تُقاوم لفتا بطريقتها الخاصة. بيوتها القديمة بحجارتها العتيقة وحدائقها التي تتحدى الزمن، أصبحت رمزًا للتمسك بالحق الفلسطيني. أهل لفتا، المنتشرون في أنحاء العالم، يحملون حُلم العودة، مؤمنين أن ذاكرة الوطن لا تموت، وأن لفتا ستظل شاهدة على تاريخ الأرض والإنسان.
“يموت الكبار وينسى الصغار”، مقولة إسرائيلية، لكنها خابت. اليوم، الصغار يحملون خارطة الوطن، وينقلون قصة لفتا من جيل إلى جيل. لفتا ليست مجرد قرية؛ إنها روح تُلهم الفلسطينيين جميعًا بأن العودة حق لا يسقط بالتقادم”.