بقلم: فلسطين دريدي*
عندما قررت الهجرة من فلسطين إلى ألمانيا، كان هدفي الوحيد هو تأمين مستقبل مشرق لطفلي الذي كان ينمو في رحمي، بعيدًا عن المعاناة والتشريد اللذين أصبحا جزءًا من حياتنا اليومية في وطننا. كانت فكرتي عن ألمانيا ترتكز على ما سمعت عنها من كونها بلاد الحرية والتعددية، حيث يتسع المجال للجميع. لم أكن أتوقع أن أواجه هناك أشكالاً من العنصرية والعنف لم أختبرهما من قبل.
كنت في أوائل الثلاثينيات من عمري، متزوجة حديثًا، وأسعى مع زوجي لعيش حياة كريمة، أو على الأقل حياة طبيعية، بعد أن سدت أمامنا معظم الفرص في بلادنا. وبعد تفكير طويل، اتخذنا قرار الهجرة.
عند وصولنا إلى مطار برلين الدولي، لاحظت أنني كنت المرأة الوحيدة المحجبة هناك. لم أعر الأمر اهتمامًا كبيرًا حتى تم اختياري لتفتيش “عشوائي”، بدا لي أنه لم يكن عشوائيًا بل بسبب حجابي. وبعد بضعة أشهر، أدركت أن هناك تمييزًا واضحًا ضد المحجبات. حدث أن دفعني رجل ألماني في محطة القطار، وأسقطني أرضًا رغم علامات الحمل الظاهرة عليّ، ثم بدأ بالصراخ في وجهي. لم أفهم كلماته حينها لعدم إتقاني الألمانية، لكن كان واضحًا أنه يعترض على حجابي ووجودي.
رحلتي في البحث عن عمل لم تكن سهلة أيضًا. كنت أواجه العنصرية في العديد من مقابلات العمل. على سبيل المثال، عندما أتقدم لوظيفة تتناسب مع مؤهلاتي، كان أصحاب العمل يزعمون أنهم لا يحتاجون إلى موظفين، بينما أكتشف لاحقًا أنهم عينوا أشخاصًا أقل كفاءة مني. كان من الواضح أن حجابي سببٌ في رفضي.
لم يتوقف الأمر عند حدود العمل؛ فقد أصبحت أخشى على سلامتي الشخصية وسلامة عائلتي. أتجنب الخروج ليلًا، خاصة بعد حوادث عنف شهدتها في محطات القطار، حيث تعرضت نساء محجبات لهجمات وحشية.
يسألني الكثيرون: “لماذا لا تخلعين الحجاب لتسهيل حياتك؟” لكنني أرى في هذا تخلياً عن هويتي وانتمائي. الحجاب بالنسبة لي ليس مجرد قطعة قماش، بل رمز لهويتي وديني.
أما ابنتي، التي تبلغ من العمر(9) سنوات، فقد واجهت تساؤلات من معارف ألمان عما إذا كنت أفرض عليها ارتداء الحجاب. أوضحت لهم أن القرار يعود لها عندما تكبر، ونحن نناقش الأمر في المنزل. تقول إنها ترغب بارتداء الحجاب في المستقبل، لكنها تخشى التنمر من زملائها.
بالرغم من تلك التحديات، لم تكن حياتي في ألمانيا دائمًا سيئة. عشت لحظات رائعة، وتلقيت دعمًا وحقوقًا لم أكن أحصل عليها في بلدي. لكن يبقى هناك شعور بالغصة بسبب العنصرية التي تذكرني دائمًا بأني “مختلفة”.
أكثر ما يؤلم المغترب هو الأمل بأن تكون الإنسانية حاضرة في كل مكان. يتمنى المرء أن تتحقق شعارات حقوق الإنسان على أرض الواقع، وألا يُترك المعتدون بلا حساب. لكن الواقع يبدو بعيدًا عن هذا الحلم، خاصة مع صعود الأحزاب ذات التوجهات العنصرية في ألمانيا. نتائج الانتخابات الأخيرة كانت مخيبة للآمال، حيث حصل حزب “البديل” اليميني على نسبة عالية من الأصوات. هذا الحزب يتبنى سياسات معادية للأجانب وللإسلام، ويقود الهجمات العنصرية، خصوصًا في ولايات مثل برلين وبراندنبورغ وساكسن.
تشير الدراسات الحديثة إلى انتشار التمييز والعنصرية في ألمانيا، خاصة ضد النساء المسلمات المحجبات. وفقًا لتقرير المرصد الوطني لمراقبة التمييز والعنصرية (NaDiRa)، الذي أُجري بين حزيران- يونيو وتشرين الثاني- نوفمبر 2022 وشمل(21) ألف مشارك، أفادت 14% من النساء المسلمات و13% من النساء الآسيويات أنهن تعرضهن للتهديد أو المضايقة عدة مرات في السنة.
بالإضافة إلى ذلك، أظهرت دراسة أجرتها الوكالة الأوروبية للحقوق الأساسية بعنوان “كونك مسلمًا في الاتحاد الأوروبي” أن معدلات التمييز ضد المسلمين واضحة في سوق العمل والإسكان. حوالي 40% من المسلمين في الاتحاد الأوروبي مؤهلون أكثر من اللازم لوظائفهم، مقارنة بـ22% من السكان عمومًا. كما أن أكثر من الثلث (35%) من المشاركين غير قادرين على شراء أو استئجار منزل بسبب التمييز.
على الرغم من عدم توفر إحصائيات محددة تتعلق بالعنصرية ضد النساء المحجبات في ألمانيا، فإن هذه الدراسات تسلط الضوء على التحديات التي تواجهها النساء المسلمات، بما في ذلك المحجبات، في المجتمع الألماني.
لا شك أن العنصرية والتمييز ضد النساء المحجبات في ألمانيا تعكس تحديات أعمق تتعلق بالتعايش الثقافي والانفتاح المجتمعي. على الرغم من الجهود المبذولة لتعزيز القيم الديمقراطية والمساواة، فإن الإحصائيات والشهادات الشخصية تعكس واقعاً يحتاج إلى مزيد من العمل والتغيير.
من المهم أن تتكاتف الجهود بين المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني لتعزيز الوعي بحقوق المرأة المحجبة وضمان حمايتها من أي تمييز. يبقى الأمل في أن يتحول الحديث عن المساواة إلى ممارسات حقيقية تعكس العدالة الاجتماعية والاحترام المتبادل، ما يتيح للجميع، بغض النظر عن خلفياتهم أو معتقداتهم، فرصة للعيش بكرامة وأمان في مجتمع يعتز بتنوعه.
*طالبة في برنامج التعليم الدولي – المانيا