الرئيسيةرئيسي"شارع ستين".. سيارة مسرعة وعمر بطيء

“شارع ستين”.. سيارة مسرعة وعمر بطيء

رام الله-المحرر-معاذ مسالمة-في غرفة صغيرة في مشفى “هداسا” يُعيد مختص نفسي تمثيل الحادث كاملاً، يوضع على طاولة خريطة، وفوقها بيوت صغيرة مصنوعة من “الليغو” مع شارع يتوسط الأشجار والبنايات، ثم راح يحرك دميتين صغيرتين، وهما تقطعان الشارع من جانب إلى الآخر ثم تضربهما سيارة مسرعة.

تلقي تولين عصفور التي كانت تبلغ من العمر سبع سنوات عينيها هنا وهناك، في محاولة لاستيعاب الأمر، غير مدركة وقتها أن دمية من الدميتين تمثلها هي، وأن هذا الحادث قصتها الشخصية، وأن مستوطناً مسرعاً غير مجرى حياة عائلتين فلسطينيتين بضربة واحدة.

قبل الحادث

رغم أنهما لم تناما تلك الليلة في فراش واحد كما اعتادتا إذ تعيش أسراتيهما في بيتين متقاربين في أطراف بلدة سنجل بمحافظة رام الله والبيرة، إلا أنهما في الصباح اتجهتا سوياً نحو الروضة في يومها الثاني، فتولين وإيناس صديقتان مقربتان متشابهتان حد التماثل، وجهاهما ملائكي صغير، جسماهما نحيف ولهما نفس العينين البنيتين الهادئتين، وتمسكان يدي بعضهما في كل وقت.

جلستا على الطاولة في الغرفة نفسها، لعبتا معاً، رسمتا لوحة حول فصل الخريف ولونتاها معاً، وفرحتا لما وضعت المعلمة نجمة على جبين كل واحدة منهما، وراحتا تمشيان متجهتان إلى البيت.

الوقت يمشي بطيئا إلى الأبد

19-10-2014، سيبقى ذلك التاريخ الأسوأ في حياة عائلتين تغيرت حياتهما إلى الأبد.

على الجهة الأخرى من الشارع كانت أمانهما تنتظران أن تتوقف السيارات لتصلا إليهما وتقطعان بهما الشارع، تصيح أم تولين عليها” ابعدي عن الشارع”، فترد إيناس” ما تخافي، تولين بخير” قبل أن تضربهما سيارة مستوطن مسرعة لتطيران ملاكان إلى السماء وتطير رسمة فصل الخريف، وتسقط منها الأشجار والبيوت والأحلام، ثم تعودان على الأرض لا نفس فيهما بلا نقطة دم واحدة، ويتوقف الزمن فجأة، يسود كل شيء، ويتضخم صوت ارتطام الطفلتين في الأرض كثيراً في أذن أميهما، وتختفي السيارات كلها فجأة، في شارع “ستين”- الشارع الذي يصل رام الله بنابلس- الذي يزدحم بالسيارات في منتصف الليل توقفت حركة السيارات فيه في منتصف النهار.

” مستوطن، مستوطن دعس البنات.. الحقونا”، كانت أم تولين التي لم تكن تبلغ العشرين من العمر تصرخ ولا تسمع من صوتها شيئاً، كأنها تصرخ في بئر عميق يمتص كل الصوت ولا يعيده وترى في السواد أم الطفلة الأخرى تفعل فعلها، حتى  توقفت سيارة ونقلتهم إلى مستشفى ترمسعيا القريب، فتبدأ بالصراخ والبكاء والاتصال بالأهل، وتتذكر أنها حامل بجنين في بطنها راح يركلها، ثم تتذكر ابنتها الملقاة على سرير بلا نفس، وتحاول عمل كل شيء في تلك اللحظة، فراشة كانت تقفز من مكان إلى آخر حتى سمعت صوتاً من الغرفة الأخرى:” ما في حياة”.

شعرت وقتها أنها فقدت قدميها ولم تعرف كيف يتحرك الإنسان، وكيف يمشي، ولم تعرف كيف انتقلت من مستشفى ترمسعيا إلى مستشفى رام الله، حتى إذا ما رأت زوجها وأقاربها هناك ورأت الجميع يعزون الجميع، وسمعت أحد الأطباء يقول أن واحدة توفيت، والأخرى لا حياة فيها، وأنها ستفارق الحياة الحياة خلال بضعة ساعات، وصرخ أحد آخر:”لماذا نخرج في جنازتين، لننتظر غدا تشييع الأخرى؟”، انهار كل الذي حاولت ترميمه بداخلها فجأة، وأدركت وقتها الأمر كله، وفقدت وعيها.

في الليل، اتصل الارتباط الإسرائيلي طالباً من العائلة أخذ الطفلة للعلاج، وقتها صرخت إحدى الممرضات في الأم” شو بدهم في بنت ميتة؟”

لكن العائلة وافقت فأخذوها، ثم تبعتها أمها إلى المشفى في نفس ملابس الصلاة التي بقيت تلبسها من وقت الحادث، وقد التصقت بها رائحة قوية لتولين، تقول الأم أنها لم تشم رائحة كتلك كل حياتها.

بقيت تولين على الأجهزة لمدة طويلة، ورغم أنهم استطاعوا إيقاف النزيف في الرئة والدماغ واستمروا بعمليات الإنعاش، إلا أن جسدها لم يستجب إلا بعد أربعة أشهر حينما أعطى أول ردة فعل كمؤشر للحياة.

فاقدة للحواس

بعد سبعة أشهر عادت تولين للبيت لأول مرة بعين واحدة فقط تتحرك، لا تعرف أحداً، لا تعرف من هي، ولا أين هي، وماذا حدث، وظلت لما يزيد عن عام وستة أشهر فاقدة الحواس الخمسة، وسنتين فاقدة المشي، وقد فقدت ذاكرتها القديمة للأبد، كان يتوجب على العائلة أخبارها مراراً وتكراراً عن اسمها وعن أسمائهم، عن ماذا تحب وماذا تكره، ويروون لها القصص عنها، يرونها فيديوهات قديمة مسجلة لها، في محاولة إعادة بناء ذاكرة جديدة، حتى الحادث ذاك لم تتذكره، كان يتوجب عليهم إعادة إخبارها قصة الحادث مرة واثنتين وثلاث، ولمّا ترى نفسها ترقص في فيديوهات قديمة تجن من المقعد المتحرك الذي يقيدها، ثم بدأت مرحلة طويلة من العلاج النفسي، كان أولها غرفة الصدمات حيث أعيد تمثيل الحادث أمام ناظريها، ثم الزيارة الأولى لقبر إيناس لتضع عليه الزهور، ثم تعود إلى نفس الشارع في محاولة لتخطي الحادث وجعله شيئاً من الماضي.

عشر سنوات مرت

ظلت حياة تولين تمشي بطيئة غير متناسقة، وظلت الأيام تزيل الغطاء عن أشياء جديدة لم تكن واضحة في بداية الأمر، إذ انتقلت من الكتابة باستخدام اليد اليمنى إلى اليسرى، ثم لاحظت العائلة موجات غضب غير مفهومة تم تشخصيها فيما بعد على أنها وسواس قهري أصاب الطفلة الصغيرة، فصارت تنزعج من أي شيء غير مرتب، تعيد ترتيب سلة الخضار حسب ألوانها، وتعيد ترتيب خزانة الملابس عدة مرات لأجل قطعة واحدة.

على مر تلك السنوات لم تستطع تولين أن تكون صديقة مقربة، تحب الأكبر سناً، وتعطي حنية كبيرة للصغار، تقضي ساعات طويلة في الرسم والكتابة والقراءة، وتحب تفكيك الأشياء وترتيبها، وتسرح ساعات طويلة في التفكير كلما مرت من الشارع ذاك.

رغم أن عمرها تجاوز الخامسة عشر، إلا أن عمرها العقلي لم يتجاوز السابعة والنصف حسب تشخيص الأطباء، الذين يقولون أن وصولها لهذه الحالة هو أمر معجزة.

في الأشهر الأخيرة بدأت تولين تشارك في المسرحيات في جبل النجمة، تخرج للرسم في ورشات للفنون البصرية في الجبال، وتشارك  في الفعاليات متحدثة عن حقوق الأطفال الذين تعرضوا للأذى من المستوطنين، كما أن جبل النجمة جعلها تتحدث معاتبة في مقابلة مع وزير التربية والتعليم لعدم توافر الكتب والأدوات للفئة التي تنتمي لها.

في عيد ميلادها الخامس عشر، اصطحبتها أمها إلى مستشفى رام الله ممسكة بيدها صورها وقت الحادث ثم ظلت تبحث عن الطبيبة  لتقول لها”هاي البنت الي قلتِ عنها ميتة”.