*(18) مليار شيقل سيولة نقدية سنوياً كان العمال يضخوها للسوق الفلسطينية
* مطالبات نقابية بإقرار قوانين حماية اجتماعية توفر الأمان للعمال في حال فقدوا وظائفهم
بيت لحم- المحرر-محمد طقاطقة وابراهيم الصبارنة- في ظل الحرب المستمرة على شعبنا، ومنع الاحتلال العمال الفلسطينيين من التوجه إلى أعمالهم داخل الخط الأخضر، تواجه آلاف الأسر الفلسطينية أزمة اقتصادية خانقة تهدد استقرارها وتعيق فرصها في حياة كريمة. هذا التحقيق يكشف التحديات التي يواجهها العمال الفلسطينيون الذين فقدوا مصدر رزقهم في إسرائيل، بعد قرابة(15) شهراً على بدء الحرب.
وضع العمال قبل الأزمة
قبل الحرب، كان العديد من العمال الفلسطينيين يعملون داخل الأراضي المحتلة في إسرائيل، ويحصلون على رواتب جيدة تتيح لهم تلبية احتياجاتهم الأساسية وتأمين مستقبلهم المالي. محمد نادي صليبي، عامل بناء من بلدة بيت أمر بمحافظة الخليل، يروي كيف كان الوضع جيدًا قبل الحرب، حيث كان يعمل في قطاع البناء داخل إسرائيل ويكسب دخلًا شهريًا يغطي التزامات أسرته ويؤمن مستقبله. “كان لدينا استقرار مادي، وكان بإمكاننا تأمين احتياجاتنا اليومية بسهولة. وكان العامل الفلسطيني يعيش حياة نسبية من الاستقرار”، يقول محمد.
التغيير المفاجئ.. نهاية الاستقرار
مع بداية الحرب وفرض الإغلاقات على العمال الفلسطينيين ومنعهم من التوجه إلى أعمالهم داخل الخط الأخضر، انقلبت الأمور رأسًا على عقب. توقفت الرواتب فجأة، ووجد العديد من العمال أنفسهم عاطلين عن العمل دون أي إشعار مسبق. هذا التوقف المفاجئ ألحق أضرارًا فادحة بالعامل الفلسطيني، الذي كان يعتمد على العمل في “إسرائيل” بشكل أساسي لتأمين قوته اليومي.
أحمد طميزة، نقابي فلسطيني، يصف الوضع قائلاً: “عندما نتحدث عن عمال انقطعت رواتبهم فجأة، فمن الطبيعي أن تصبح ظروفهم المعيشية صعبة جدًا. كان لديهم التزامات؛ البعض عليه شيكات، أو لديه مشاريع بناء، أو اشترى سيارة. كل شيء توقف لديهم”. ويضيف” الشيكات لم تُسدَّد، ومن لديه سيارة باعها بنصف السعر. الحالة المعيشية بشكل عام أصبحت متدهورة، والقدرة الشرائية تراجعت بشكل كبير”.
الأثر على المجتمع الفلسطيني
يُظهر الوضع الراهن حجم التأثير الاقتصادي على المجتمع الفلسطيني بأسره. فقد انخفضت القدرة الشرائية بشكل ملحوظ، ما أثر على التجار والمشاريع الصغيرة، حيث تراجعت مبيعاتهم بشكل كبير بسبب انعدام القدرة المالية للمستهلكين. “عمال إسرائيل لم يتأثروا بشكل شخصي فقط، بل على العكس، أثّروا على فئات أخرى، مثل التجار والمشاريع الصغيرة التي تراجعت بشكل كبير بسبب انخفاض القدرة الشرائية. هذا الانخفاض أثّر على الاقتصاد بشكل عام”، يوضح أحمد طميزة.
ويوضح الخبير الاقتصادي ثابت أبو الروس أن توقف حوالي (196) ألف عامل فلسطيني عن العمل في إسرائيل تسبب في خسارة اقتصادية ضخمة. فقد كانت العمالة الفلسطينية في إسرائيل تضخ نحو(1.5) مليار شيقل شهريًا في السوق الفلسطيني، ما أدى إلى خسارة لا تقل عن(18) مليار شيقل سنويًا، وهو ما أثّر بشكل مباشر على الحركة التجارية داخل الأسواق الفلسطينية. ومع تراجع القدرة الشرائية، تزايدت معدلات البطالة والفقر، ما فاقم الأزمة الاقتصادية.
مبادرات محدودة.. حلول جزئية
في ظل هذا الواقع الصعب، حاولت الحكومة الفلسطينية اتخاذ بعض الخطوات للتخفيف من الأزمة. حيث أطلقت وزارة العمل مبادرات بالتعاون مع سلطة النقد والبنوك مثل توفير قروض بدون فوائد للعمال، لكن هذه المبادرات لم تكن كافية لمواجهة حجم الأزمة. ووفقًا لما أشار إليه أحد العمال في مقابلة، “لم يتم التواصل معنا من أي جهة سواء كانت حكومية أو نقابية. المعاناة التي نواجهها تتعلق بالأوضاع الاقتصادية؛ الأمور التي كنا قد رتبناها من شيكات وغيرها قبل الحرب، كلها اليوم عادت لتشكل عبئًا اقتصاديًا وماليًا كبيرًا علينا”.
ولم تكن هذه المبادرات إلا حلولًا جزئية، حيث لا يزال الوضع في أسوأ حالاته. وأضاف النقابي أحمد طميزة: “حتى اليوم، لا توجد خطة بديلة، وكأن لم يكن أحد يتوقع أن يحدث هذا الأمر. كانت الأمور تبدو وكأنها مستقرة، ولكن الآن المصير مجهول”.
فقد حاولت وزارة العمل التفاعل مع الأزمة من خلال إطلاق بعض المبادرات التي تركز على دعم القطاعات الإنتاجية وتوفير فرص عمل جديدة. من أبرز هذه المبادرات برنامج تمويل عمال الخط الأخضر، الذي يهدف إلى تقديم قروض بدون فوائد، بالإضافة إلى إنشاء مراكز تدريب مهني لدعم المشاريع الصغيرة.
كما تبذل الوزارة جهودًا للتعاون مع المجتمع الدولي، مثل التنسيق مع البنك الدولي لتحسين أوضاع العمال الفلسطينيين وتوفير فرص عمل جديدة.
مطالب نقابية
المطالب التي يرفعها العمال الفلسطينيون تشمل توفير تعويضات أو فرص عمل جديدة. محمد صليبي، الذي يعاني من عبء الديون والشيكات المرتجعة، يقول: “نريد أن توفر لنا الحكومة على الأقل تعويضات بسيطة أو فرص عمل تساعدنا على تجاوز هذه الأزمة. نحن في وضع لا نحسد عليه، وعائلاتنا تعتمد علينا في تأمين قوت يومها”.
وعلى الرغم من الحديث المستمر عن مشاكل العمال، لا تزال الحكومة عاجزة عن اتخاذ خطوات فعلية لتحسين الوضع. يطالب النقابيون بإقرار قوانين حماية اجتماعية توفر الأمان للعمال في حال فقدوا وظائفهم، وهو ما كانت النقابات تطالب به قبل الحرب، كما يؤكد أحمد طميزة.
البحث عن البدائل
بعض العمال حاولوا البحث عن بدائل من خلال فتح مشاريع شخصية صغيرة أو العمل في قطاع الزراعة. يروي أحد العمال، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، كيف تحولت الزراعة إلى مصدر دخل لبعض العمال الذين يمتلكون أراضٍي. “لقد استفاد بعض العمال من العمل في الزراعة لأنها وفرت لهم دخلًا جيدًا. لكن العمال الذين لا يمتلكون أراضٍ يواجهون صعوبة كبيرة في العثور على بدائل للعمل في الداخل المحتل”.
ورغم هذه المحاولات الفردية، تظل الحاجة إلى حلول جذرية لتوفير فرص عمل جديدة وفتح أبواب الدعم للمشاريع الصغيرة كبيرة، سواء عبر الحكومة أو منظمات دولية مثل “الأونروا” و”اليونيسيف”.
التحديات مستمرة
قبل الحرب، كان العديد من العمال الفلسطينيين يعملون في الأراضي المحتلة داخل إسرائيل، حيث كانت تصاريح العمل الممنوحة لهم في تزايد مستمر. ففي عام 2017، بلغ عدد تصاريح العمل حوالي 75,000 تصريح، ما ساعد في تأمين دخل جيد للعائلات الفلسطينية. لكن مع تعليق تصاريح العمل في تشرين الأول 2023، انخفض عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل بشكل حاد، ما أثّر بشكل مباشر على الأوضاع الاقتصادية في الداخل المحتل.
وتظل الأزمة قائمة رغم هذه بعض التدخلات لمعالجة آثارها هنا وهنك، ، حيث تزداد معدلات البطالة والفقر بشكل مستمر، وتواصل الحكومة مواجهة ضغوطات متزايدة بسبب ضعف قدرتها على دعم الاقتصاد في ظل الظروف السياسية المعقدة.