رام الله- المحرر-دنيا حسين- في ذاكرة فلسطين، يظل اسم اللواء فؤاد الشوبكي محفورًا كرمزٍ للنضال والعطاء. لم يكن مجرد أسير سياسي أو رجل دولة، بل كان أبًا غائبًا حاضرًا، وصوتًا حريصًا على الكرامة الفلسطينية حتى خلف القضبان. بعد أن قضى قرابة (21) عامًا في في الأسر، رحل “شيخ الأسرى” عن عمر ناهز 83 عامًا، لكنه ترك وراءه حكاية صبر ووفاء تُروى.
يستعيد نجله حازم الشوبكي وزوجته الصحفية سهى الريماوي، تفاصيل حياة الراحل، الذي عاش من أجل شعبه وودّع الحياة بين أحبّته بعد الإفراج عنه.
رجل الثورة الذي لم يعرفه أبناؤه كفاية
ولد فؤاد الشوبكي في غزة عام 1940، ومنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1968، التحق بالصفوف الأولى إلى جانب الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي وثق به واعتبره مؤتمنًا على المال العام. يروي نجله حازم: “لم نعرفه كأب بالمعنى التقليدي، لأنه كان دائم الانشغال بخدمة قضيته وشعبه”.
كان الشوبكي مسؤولًا عن الإدارة المالية العسكرية، ومستشارًا لعرفات، وعضوًا في المجالس الثوري والعسكري والمركزي والوطني. ساهم في نقل أموال منظمة التحرير خلال حصار بيروت عام 1982، مؤمنًا بأن النضال لا يكون فقط بالبندقية، بل أيضًا بالإدارة والتخطيط.
أنشأ مشاريع اقتصادية مثل مزارع الأبقار ومصنع الألبان، وميناء “بور فؤاد”، ومؤسسات استهلاكية للعسكريين، وكان من مؤسسي شركة “فلسطين للتأمين”.
الاعتقال والاختطاف من أريحا
في نهاية عام 2001، وبعد حادثة سفينة “كارين A”، تعرض الشوبكي لضغوط إسرائيلية وأمريكية، رغم أنه خضع لمحاكمة فلسطينية وبرّأته المحكمة. ومع اشتداد الحصار على مقر المقاطعة في رام الله، تم التوصل لاتفاق يقضي بنقله إلى سجن أريحا تحت رقابة دولية.
في 14 آذار 2006، اقتحمت قوات الاحتلال السجن واختطفت الشوبكي، لتنقله إلى سجن “المسكوبية”. يقول حازم: “كنت في مصر حينها أدرس للماجستير، وشاهدت والدي مكبل اليدين ومغمض العينين على شاشات التلفاز… مشهد لن أنساه ما حييت”.
الوجع الممتد خلف القضبان
عانى الشوبكي من الإهمال الطبي داخل السجن، حيث دخل وهو يعاني من الضغط والبواسير، وخضع لعدة عمليات جراحية، بينها استئصال كتل تبين لاحقًا أنها دهنية، لكنها أُغلقت بشكل خاطئ، ما أدى إلى مضاعفات صحية مستمرة و مزمنة.
كانت الزيارات لأسرته محدودة. “يسمح لي وللوالدة بزيارة واحدة سنويًا فقط، والبقية كل شهر أو شهرين”، يوضح حازم، مضيفًا أن والده كان يرفض رؤية أحفاده خلال الزيارات، حتى لا يروه في حالته تلك.
“لا تعيطيش… رح أطلع“
يستحضر حازم مشهد النطق بالحكم، حين بكت والدته في قاعة المحكمة، فقال لها الشوبكي: “ما تعيطيش… رح أطلع، تخافيش”. كلمات ظلّت محفورة في ذاكرته، تمامًا كما بقي صدى والده يردّد: “والله ما بحب الظالمين، ورح ننتصر”.
الأثر العاطفي والأسري
الزوجة سهى الريماوي تؤكد أن الشوبكي ظل حاضرًا في أحاديث العائلة رغم غيابه، وحرص الجميع على إيصال صور أحفاده إليه. تقول: “كان يحب الأطفال جدًا، وكان يخاف عليهم من الحسد، وكان يطلب صورهم دائمًا”. ذات مرة، حمل صورة حفيده جواد في السجن وقال للأسری: “هذا حفيدي، وبس يكبر رح يصير أطول منكم”.
وعن وفاة زوجته عام 2011 أثناء أسره، توضح سهى أن الخبر وصل إليه من الأسرى ومن وسائل الإعلام، وكان وقع الصدمة عليه مؤلمًا، لكنه أصر على نقل جثمانها إلى فلسطين.
سنوات ما بعد الحرية
بعد الإفراج عنه، عاش الشوبكي سنة ونصف فقط، لكنها كانت كافية ليملأ عينيه من أولاده وأحفاده. تقول سهى: “لم يكن مرتاحًا في التجمعات، ولا يحب الحديث عن السجن، وكأنه أراد أن يحتفظ بوجعه لنفسه”.
ومن بين الذكريات الثقيلة والألم الذي لم يفارق القلب، كان نجل الراحل يحدثنا بصدقٍ وحنين عن والده، وعن رحلة الفراق الطويلة والميراث الإنساني الذي تركه وراءه.