الرئيسيةتقاريرسياسة الهدم والتهجير .. آليات التطهير الديمغرافي وتهويد الضفة

سياسة الهدم والتهجير .. آليات التطهير الديمغرافي وتهويد الضفة

نابلس-المحرر-مريم عطية -في قلب الضفة الغربية المحتلة، لا تزال سياسة الهدم والتهجير الإسرائيلية تمضي بوتيرة متسارعة، كأحد أبرز الأدوات الاستعمارية التي يستخدمها الاحتلال لإعادة رسم الخريطة الديموغرافية والجغرافية بما يخدم مشروعه الاستيطاني، فهذه السياسة لم تعد مجرد استجابة أمنية ظرفية، بل باتت تشكل جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية إسرائيلية طويلة المدى، تهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني في الأرض المحتلة، وتسهيل خطوات الضم الفعلي، وإن لم يكن المعلن، لأجزاء واسعة من الضفة الغربية.

تعتمد هذه الاستراتيجية على منظومة قوانين عسكرية ومدنية إسرائيلية تم تصميمها خصيصاً لتجريد الفلسطينيين من حقهم في البناء والسكن، حيث تُرفض الغالبية العظمى من طلبات تراخيص البناء المُقدمة من الفلسطينيين في المناطق المصنفة “ج”، رغم أنها تشكل 60% من الضفة الغربية وتخضع لسيطرة إسرائيلية كاملة بموجب اتفاق أوسلو 1995م. في المقابل، تُمنح المستوطنات الإسرائيلية المُقامة بشكل غير قانوني تسهيلات واسعة وتُزود بالبنية التحتية اللازمة دون عوائق. وهكذا، يصبح كل بيت فلسطيني مشيداً دون ترخيص عرضة للهدم في أي لحظة.

الهدم والتهجير: سياسة ممنهجة

على مدى الخمسة عشر عاماً الماضية، كثفت إسرائيل من سياساتها الاستيطانية والعدوانية في الضفة الغربية المحتلة، عبر توسيع نطاق عمليات الهدم بشكل منهجي، لتشمل بالأساس المنطقة “ج” الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، وبحسب بيانات موثقة صادرة عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA)، قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بهدم أكثر من 8,765 منشأة فلسطينية في المنطقة “ج” بين يناير/كانون الثاني 2010 ويناير/كانون الثاني 2025. ومن بين هذه المنشآت، تم تدمير 3,107 منشأة زراعية و2,025 منزلاً مأهولاً بالسكان، ما أدى إلى تشريد ما يزيد على 10,000 فلسطيني، وتأثر أكثر من 192,000 آخرين بشكل مباشر أو غير مباشر جراء هذه الإجراءات، وقد تركزت عمليات الهدم في عدد من التجمعات الفلسطينية الريفية والهشة، أبرزها خربة طانا شرقي نابلس التي شهدت هدم 400 منشأة، تلتها خربة حمصة بـ211 منشأة، وتجمع أبو العجاج بـ200 منشأة، بالإضافة إلى مدينة الخليل التي فقدت 146 منشأة. وتستخدم القوات الإسرائيلية في تنفيذ هذه العمليات جرافات عسكرية من طراز “كاتربيلر D9″، وهي معدات مدرعة ثقيلة معدة أساساً لأغراض عسكرية، ما يعكس الطبيعة العنيفة والمنهجية للهدم. وفي كثير من الحالات، يُجبر الفلسطينيون على هدم منازلهم بأيديهم، تحت طائلة دفع غرامات باهظة تفوق تكاليف البناء، وتشمل سياسة الهدم أيضاً استهداف البنية التحتية الحيوية التي تشكل شريان الحياة لهذه التجمعات، مثل: خزانات المياه، والألواح الشمسية التي توفر الكهرباء، ما يجعل الاستمرار في الحياة ضمن هذه المناطق أقرب إلى المستحيل.

ما بعد حرب 7 أكتوبر: تصعيد غير مسبوق

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، شهدت الضفة الغربية تصعيداً غير مسبوق في سياسة الهدم الإسرائيلية، الأمر الذي يُعد امتداداً للعقاب الجماعي ضد الشعب الفلسطيني. حيث تشير بيانات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية إلى أن الاحتلال الإسرائيلي كثف من عملياته في المنطقة “ج”، حيث تم تدمير 1,238 منشأة فلسطينية خلال عام واحد فقط، شملت 474 منشأة زراعية و231 منزلاً مأهولاً، ما أدى إلى تشريد أكثر من 1,086 فلسطينياً بشكل مباشر.

أما على صعيد الضفة الغربية ككل، فقد بلغت الحصيلة 2,197 منشأة مهدمة خلال الفترة ذاتها، ما أسفر عن تهجير قسري لـ5,371 فلسطينياً، وتضرر قرابة 535,000 آخرين، بفعل استهداف البنية التحتية والخدمات الأساسية ومصادر الرزق. وقد طالت عمليات الهدم أيضاً مخيمات اللاجئين، التي من المفترض أن تخضع لحماية دولية خاصة، حيث دُمرت 203 منشآت في مخيم طولكرم، و174 في مخيم نور شمس، و144 في مخيم جنين، في انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي.

وتزامناً مع هذه الحملة، صعدت جماعات المستوطنين من اعتداءاتها المدعومة من الجيش الإسرائيلي، إذ تم توثيق أكثر من 1,860 اعتداءً ضد الفلسطينيين، شملت حرق الممتلكات، واقتلاع الأشجار، والاعتداء الجسدي، مما تسبب في تهجير 300 عائلة قسراً (بما يعادل نحو 1,762 شخصاً، بينهم 856 طفلاً). هذا التصعيد لا يُقرأ بمعزل عن توجهات حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة، بل يُعد جزءً من سياسة ميدانية ممنهجة تستهدف تفكيك المجتمع الفلسطيني وتهجيره لصالح المشروع الاستيطاني، في ظل صمت دولي مقلق.

في هذا السياق، تصاعدت الشهادات من داخل مخيم جنين، الذي شهد عمليات عسكرية مكثفة خلفت هدم واسع في البنى السكنية، وتسببت في نزوح جماعي للسكان. يروي مجد الطوباسي، أحد النازحين من مخيم جينين، ” “في ساعات قليلة، اجتاح الجيش الإسرائيلي المخيم تحت غطاء الطيران والجرافات، واضطررنا لمغادرة بيتنا، لم نكن وحدنا، بل تهجر المخيم كله، بيتنا الذي سكناه ثلاثين عاماً، فقدناه بلحظ”. وأضاف “ما حدث لا يمكن وصفه بالكلمات، فقد كانت الصدمة أكبر من أن تُحتمل، أن يُهدم بيتك الذي عشت فيه عمرك كله، ليس وتنزح من مكان سكنك ليس بالأمر السهل.” أما محمود صادق الحويطي، فيستحضر موقف النزوح والهدم قائلاً “غادرنا منازلنا تحت نيران القصف وأصوات الجرافات والطائرات فوق رؤوسنا، المشهد كان صعباً، لكن رغم الألم، ما زلنا نتمسك بالأمل، ونؤمن أن هذه المحنة ستمر، وسنعود إلى مخيمنا وبيوتنا.”

إخطارات الهدم: تمهيداً للتطهير العرقي

في سياق السياسة الإسرائيلية الهادفة إلى تغيير الواقع الديموغرافي في الأراضي الفلسطينية، تزايدت بشكل ملحوظ إخطارات الهدم التي أصدرتها السلطات الإسرائيلية، حيث تم إصدار 939 إخطاراً خلال عام 2024 فقط. تمركزت أغلب هذه الإخطارات في ثلاث محافظات رئيسية: الخليل التي شهدت 180 إخطاراً، وأريحا 140 إخطاراً، وبيت لحم التي تلقت 126 إخطاراً، ما يعكس تصعيداً مستمراً في سياسة الهدم التي تستهدف منازل الفلسطينيين وممتلكاتهم. يشكل هذا جزءً من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى إفراغ المناطق الفلسطينية من سكانها الأصليين، تمهيداً لفرض أمر واقع جديد يتناسب مع الأهداف الاستيطانية.

في المقابل، تستمر السلطات الإسرائيلية في تنفيذ مخططات استيطانية تهدف إلى توسيع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، حيث تمت الموافقة على 173 مخطط استيطاني جديد في العام 2024، يتضمن بناء 23,461 وحدة استيطانية جديدة، وهو ما يزيد من عملية اقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم لصالح المستوطنين. هذه المشاريع الاستيطانية تأتي في وقت حساس، حيث تم توثيق مصادرة 52 ألف دونم من الأراضي الفلسطينية منذ أكتوبر 2023، تحت ذريعة “أراضي الدولة”، حيث يُستخدم هذا الذريعة في أغلب الأحيان كغطاء قانوني لتوسيع المستوطنات.

خطر التهويد: من الهدم إلى الاستبدال السكاني

هذا التصعيد في سياسة الهدم والمصادرة يشكل جزءً من مشروع “التهويد” الشامل الذي تسعى إسرائيل إلى تنفيذه في الضفة الغربية، ففي ظل تزايد أعداد المستوطنين، التي وصلت إلى 770 ألفاً في عام 2024، موزعين على 180 مستوطنة و256 بؤرة استيطانية، يتضح أن الاحتلال الإسرائيلي يهدف إلى استبدال السكان الفلسطينيين بالمستوطنين اليهود في مناطق استراتيجية من الضفة الغربية. إذ إن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، مثل وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي صرح بأن عام 2025 سيشهد “هدم مباني فلسطينية أكثر مما يُبنى”، تؤكد على نية الاحتلال في الاستمرار في تعزيز هذه السياسة التوسعية.

كما يتم تهجير الفلسطينيين قسراً من قراهم، حيث يتم إخلاء قرى كاملة تحت تهديد السلاح، مثل قرى زنوتا وشعب البطم، ما يضاعف من معاناة المواطنين الفلسطينيين، ويؤدي إلى تدمير الحياة المجتمعية والثقافية في تلك المناطق.

سياسة الهدم والتهجير الإسرائيلية ليست مجرد انتهاكات فردية، بل جزء من استراتيجية تطهير عرقي ممنهج للوجود الفلسطيني، تدعمها حكومة إسرائيلية متطرفة وتغض الطرف عنها المجتمع الدولي. ومع تصاعد وتيرة الهدم بعد 7 أكتوبر، أصبحت الحاجة ملحة لتحرك دولي جاد لوقف هذه الجرائم وإنهاء الاحتلال.