رام الله-المحرر-زينب الحايك-انطلقت حافلة العودة متجهة إلى مدينة الخليل، كانت تتمنى أم ( مضر) لو استطاعت معانقةِ مضر وضمه بين ذراعيها، دقيقة واحدة ربما كانت كافية لرد شيء من الحياة لروحها المتعبة منذ غاب عنها قبل سبعة عشر عاما، لكن السجان في هذه الزيارة أيضاً حال بينها وبين أمنيتِها، نظرت من نافذة الحافلة، وتذكرت كم تكره ذلك الزجاج الذي منعها من ضمن فلذة كبدها وسماع دقات قلبه، أشاحت بنظرها عن النافذة، وغرقت في بحر من الذكريات، ظهرت ابتسامة صغيرة زينت وجهها المرهقُ من عناء السفر للوصول الى ما يسمى بسجن ( إيشل ) في مدينة بئر السبع، تزاحمت مئات الصور في ذاكرتها كلها لمضر! وكأنها لا تريد أن ترى الدنيا إلا بعينيه، تمنت لو ساد الصمت أرجاء الكون ليبقى صوته يطرب مسامعها.
أغمضت عينيها بعدما اغرورقتا بالدموع وهي تذكره طفلا يملأ أرجاء المنزل حياة، ثم شاباً في مقتبل العمر، كانت أم مضر قد رسمت له مستقبله كأي شاب من أقرانه، يكمل تعليمه، يجهز بيته، تزف له عروسه، وكغريها من الأمهات الفلسطينيات خططت لأدق التفاصيل، قطع غفوتها الجميلة صوتُ بكاء طفل رضيع، كانت أمه في زيارة لزوجها المحكوم بالمؤبد، تماما كما قطعت صرخات الطفلة ( هدى غالية ) أحلامَ مضر بمستقبل هادئ ووادع وعادي، كغيره من أقرانه ورفقائه.
تغير مضر أبو دية كثيراً منذ اللحظة التي بثّت فيها صور المجزرة البشعة التي ارتكبها الاحتلال على شاطئ غزة، حينها شاهد العالم بأسره هول ما جرى، وسمع الجميع صرخات الطفلة هدى بعدما فقدت كلَ أفراد عائلتها، كان مشهد الطفلة المكلومة وهي تنادي أبآها بعدما سقط على الرمال مضرجا بدمائه يحطم القلوب، قَلب ذلك المشهد حياة مضر رأسا على عقب، ويبدو أنه عزم على الانتقام والثأر لها .. بدأ يخطط لقتل مستوطنٍ اعتاد الجلوس على تلة قريبة من قرية ( بيت أمر)، يدعي أنها أرض أجداده، عاد مضر من مدرسته وتناول الغداء وأخذ سكينا من مطبخ بيتهم، ومضى برفقة أحد أصدقائه، جلس متربصاً ينتظر اللحظة الحاسمة، وعندما حان الوقت انقض على المستوطن الجاثم بكل وقاحة على أرض ما كانت له يوما ولن تكون ! أجهز عليه وعاد إلى بيته، بدل ملابسه، وجلس برفقة والديه وإخوته لتناول طعام العشاء، لم يمض وقتٌ طويل حتى تم اعتقاله بعدما اكتشفت جثة المستوطن القتيل، تَعَرَضَ مضر خلال فترة التحقيق التي امتدت لأيامٍ طويلةٍ لتعذيبٍ جسديٍّ ونَفسيٍّ كبير على يد ما يسمى (جهاز الشاباك) الاسرائيلي، وعانى إصابات بالغة، حيث كسرت يده وكسر أنفه، وما زال يعاني من آثار تلك الإصابات إلى اليوم .
حُرم ذووه من زيارته فترة طويلة، ناهيك عن التنكيل بهم، والتضيق عليهم وتخويفهم، ومن ثم سلموا إخطارا بهدم منزلهم، وهذا كله في إطار سياسة التنكيل الاحتلالية.
عادت أم مضر من الزيارة بمزيج من المشاعر المختلطة، بين اليأس تارةً، والتحدي والصمود تارةً أخرى، وبين تفاعلٍ مع الأحداث التي تدور في وجدانها، وبين تفاصيل حياتها المتوقفةِ عند تلك الليلة التي اعتقل فيها مضر، وجهه الشاحب، وصوته المرهق، وجسده النحيل، صورته لا تفارق خيالها، عادت من زيارته تحمل ألوانا من الهموم والعذابات، حقاً إنها قلقة عليه، وبحكم عملها كممرضة متمرسة، شعرت أن صحته ليست على ما يرام، رغم أنه لم يتفوه لها بكلمة عما يعانيه داخل الأسر من الآم الظهر والمفاصل وغيرها، نتيجةً لسياسة الإهمال الطبي والقتل البطيء التي ينتهجها الإحتلال تجاه الحركةِ الأسيرة منذ عقود.
سُجِنَ مضر طفلا لم يتجاوز السبعة عشرَ من عمره، وهو الآن في منتصف عَقدِه الثالث، أخفت دمعتها أمام زوجها وأبنائها، ابتسمت وهي تحدثهم عن مضر وأحواله، عن أشواقه وشجونه، عن آماله والآمه، تَنقِل كلامه وكأنها حفظته عن ظهر قلب، زفت لهم خبر استعداده للإلتحاق ببرنامج الدكتوارة في إحدى جامعات السودان، وكان قد حصل الثانوية العامة ودرجة البكالوريوس والماجستير أثناء سنوات سجنه الطويلة، لم تستطع منع نفسها من البكاء بحرقةٍ لما ضمت أحفادها إلي صدرها، لا تدري لماذا، ربما في هذه اللحظة بالذات تذكرت مضر طفلا بين ذراعيها، أو أنها دعت الله أن ترى يوماً أبناء مضر يملأون الدنيا ضجيجا، وأن تضمهم إلى قلبها .. تساءلت في سرها، هل سيحيني الله لذلك اليوم؟ هل سأراه حراً مرةً أخرى؟ ولكن في النهاية كان الشعور الدائم لديها أن ساعة الفرج قريبة، ولا بد لهذا الليل أن ينجلي، ولهذا القيد أن ينكسر، غداً تطير العصافير، غدا تشرق شمس الصباح، غدا يزهر الربيع، غدا يعود لقلبها نبضه، ولروحها الحياة.
مضى على الزيارة بضعة أشهر، وإذا بمضر يتصل بأمه، خفيةً عن السجان، ليخبرها أنه ينوي الإرتباط بفتاة من مدينة نابلس، اختلطت مشاعرها، تسارعت دقات قلبها، لا تدري! أتفرح كغيرها من الأمهات في مثل هذا الموقف! أم تبكي على حالها وحال ستةِ آلاف أسير من أمثالك يا مضر! كل له قصةٌ كتبت بمداد الألم والدموع والحسرات، انتظرت حتى أنهى كلامه، ثم شعرت بقوة خفية تدفعها لسؤاله عن التفاصيل، من هذه الفتاة؟ وكم عمرها؟ وهل تناسبك؟ الخ … من أسئلة الأمهات، كانت تعلم أن أسئلتها ليست في مكانها ولا وقتها الملائم، فمضر محكوم مدى الحياة، وهذه الفتاة تقدم على مغامرة مجهولة العواقب، ولا بد أنها من بيت علم ودين، وصاحبة خلق رفيع، وحس وطنيٍ فريد، وإلا كيف لفتاة متعلمة لا ينقصها شيء أن ترتبط بشاب محكوم بالسجن مدى الحياة ؟ لكنَّ أم مضر ظلت تطرح السؤال تلو السؤال، وكأنها تعبر عن فرحة حرمت منها سبعة عشرَ عاما، عدتها بالأيام والساعات .. هي التي قطعت على نفسها عهدا ألا تحضر (عرساً) ما بقي فلذة كبدها في الأسر! ها هي تستعد لخطبة مضر، وجدت أخيراً فسحة للفرح، وجدت مكاناً لابتسامةٍ غابت عنها طويلاً، توجهت الجاهة من الخليل إلى نابلس، لطلب يد الفتاة، لتكون عروساً لمضر، الذي ينتظر فرجاً عاجلا من رب كريم، تمت مراسم الخطبة على أكمل وجه، حضر الأهل جميعاً وغاب مضر، غيبه احتلالٌ ظالمٌ متجبرٌ لا يرحم، عاد الجميع، كل إلى بيته، وعادت أم مضر إلى بيتها أيضاً، ولكنها عادت هذه المرة أقوى من ذي قبل، تحمل في قبلها أملاً كالجبال الراسيات، وعزيمة لا يبددها ظلام الليل، وتحدٍ يكسر سطوة المحتل.
تمت خطبة الأسير المحكوم بالمؤبد، الذي يرى الفرج قريباً، لا يراه حلما، بل يعيشه واقعاً وفجراً صادقاً، يلعق أمله بالله بأن يكون الفرج قريباً لتكمل فرحته، ويلم شمله بعروسه، ويعانق والدته، بعيدا عن جدران السجن ولؤم السجان.