بقلم: عزات فكري
في السابع من أكتوبر استيقظت من النوم، صليت الفجر وجلست على مائدة الإفطار، كان وقتاً هادئاً كسكون الليل، ثم علت زقزقة العصافير، وأذكار الصباح تعم أرجاء البيت.
جهزت حقيبتي لكي أذهب إلى الجامعة، ومن ثم جلست قليلاً أتصفح بعضاً من الأخبار، وفجأة علا صوت غامض شديد، نظرت إلى النافذة وإذ بصواريخ المقاومة تنطلق من كل إتجاه.
نشرات الأخبار “المقاومة الفلسطينية تقتحم مواقع الاحتلال الإسرائيلي في غلاف غزة”، دوت تكبيرات الناس” الله أكبر، الله أكبر، وكأنه يوم عيد” بعد سنوات من الحصار والقهر والظلم.
نشرات الأخبار : “قتلى بالمئات في صفوف جنود الاحتلال الإسرائيلي” الرجال الفلسطينيون يواصلون الاقتحام بمعية الله مكبرين مهللين.
النساء يملأن أرجاء المكان بالزغاريد، دعوات صادقة في زمن الأمل بنصر الله.
الصفحات الإسرائيلية “ما هذا؟، هذا حلم؟ هذا كابوس؟ إنهم مصدومون.
ما أن حلت ساعة الظلام الدامس، وإذ بطائرات الاحتلال جن جنونها حيثما أسكن. قصف بيت بجانبنا قصفاً مباشراً بدون سابق إنذار على رؤوس ساكنيه. اهتز بيتنا اهتزازاً مُفاجئا تطاير معه كل ما في المكان، وطار الزجاج، والغبار في كل مكان، وسمعت صرخات عائلتي وإخوتي وأقربائي الذين هربوا إلينا، كنا جميعاً في الطابق الثالث. أدركت الموقف لم أنهار، حملت حقيبتي، وأمسكت بيد أختي ونزلت على الدرج بكامل إدراكي.
الجميع يصرخ وسيارات الإسعاف في كل اتجاه، الجميع يبكي، منهارين، مرددين “مجزرة..مجزرة”.
كنت قوياً متماسكاً إلى أن رأيت شخصاً ربما هو جار من جيراننا وقد تحول إلى أشلاء، يحملونه ليضعوه في سيارة الإسعاف ، كان مشهداً مرعباً، لم يسبق لي رؤيته واقعاً.
هنا كسرت أضلعي، وأحسست بضعف وعجز، وانهارت قواي، مذ تلك اللحظة، لم أعد أشعر بشيء غير الألم والحزن الكبير.
رسالة على الهاتف “الجيش يعلمكم بإخلاء بيت حانون على الفور، والتوجه باتجاه الجنوب”، شعرنا بالصدمة، أصوات القصف في كل مكان، ماذا نفعل ؟!
الساعة الواحدة ليلاً، هربنا مشياً على الأقدام، الشوارع ممتلئة بالسكان حاملين القليل من المتاع، حقيبة على الظهر، وزجاجة ماء تروي ظمأ هارب من الموت.
أطفال يصرخون، ونساء يبكين، وشيوخ مرهقين. خيم القلق على الجميع
سالكين طريق “صلاح الدين”، متوجهين إلى الجنوب، تحفهم عناية الرحمن. بعد أن عبرنا مدينة بيت حانون، دخلنا لنستريح في مدرسة تابعة لـ”الأونروا” نفترش البلاط ، والطقس بارد، الظلام مخيف ومرعب، استيقظنا على أصوات الانفجارات، مدفعية الاحتلال تضرب في كل مكان، صوت مرعب للغاية، طيران الاحتلال يقتل كل من يتحرك على الأرض، إنها حرب إبادة.
خبر عاجل عبر الراديو، الاحتلال الإسرائيلي ينفذ عشرات المجازر بحق المدنيين، والسماء ملبدة بطائرات الاحتلال، وعشرات الشهداء على أرصفة الشوارع، حتى الحيوانات لم تسلم من بطشهم وطغيانهم.
واستمر هذا الحال المرعب، بعد أسبوعين طيران الاحتلال يلقي (المناشير) وهي أوراق صغيرة مكتوب فيها “عليكم بإخلاء شمال غزة والتوجه جنوباً إلى ما بعد وادي غزة”. الحيرة والقلق يكتنفان مستقبلاً مجهولاً، هل سننجو من الحرب أم لا؟!
رعب في النفوس، وطائرات الاحتلال تقصف في كل مكان، جمعنا أنفسنا وذهبنا إلى الجنوب متوجهين إلى مدينة النصيرات، وسط النهار حيرة وقلق، وبحث عن الماء وكأنه يوم الساعة.
ويستمر النزوح، آلاف مؤلفة من السكان يتوجهون إلى الجنوب، الطرقات ممتلئة ، إنها ساعات الهروب من وحش لا يشبع من قتل الأطفال والنساء.
تتوالى الأيام يوماً بعد يوم، ولم يسلم مكان من قصف طائرات الاحتلال الإسرائيلي، الناس تبحث عن الماء والطعام، ماء ملوث، الأوبئة والجراثيم في كل مكان، صراع من أجل البقاء، أيام صعبة، ويستمر التهجير.
اليوم الخمسون للحرب، خبر عاجل عبر وسائل الإعلام مفاده”وزارة الطوارئ الروسية تدرج كشفاً بأسماء مزدوجي الجنسية لإجلائهم من قطاع غزة”، بحثت عن الأسماء وإذ بالأرقام تتوالى: الرقم الثالث والسبعين، الرقم الرابع والسبعين، وجدت أسماء عائلتي.
في صباح اليوم التالي ودعت أبي الذي وقف بجانب إخوته وأخواته يعينهم ويرعاهم، ودعت غزة الجريحة والمثقلة بالحزن، آملين من الله أن يفرج كرب الغزيين وأن يرحمهم برحمته، ويربط على قلوبهم بالصبر والسلوان، وأن ينصرهم على هذا الاحتلال المجرم.
عبرنا معبر رفح، هنا هدوء وأمان، لا يوجد قصف، تبدل الخوف إلى طمأنينة، لا صوت انفجارات، تنفست بعمق، ما أهدأ الأجواء وما أجمل الأمن والسلام!
اليوم التالي، انطلقت الطائرة الروسية متوجه إلى العاصمة موسكو، الساعة الثالثة فجراً، هبطنا في المطار، الطقس بارد جداً، جاءت الشرطة الروسية ووزعت الملابس الشتوية، وقدمت لنا الطعام والعلاج، بعد ساعات توجهنا إلى المأوى، حيث الاستقرار والأمن والهدوء والراحة.
وتتوالى الأيام، وإذ بالمسلمين في روسيا يقدمون لنا الملابس والأموال، إنهم إخوتنا، مساندين ومتعاونين.
وبعد ثلاثة أسابيع تم نقلنا إلى داغستان، حيث الإسلام والمساجد الكثيرة. تشبه بلادنا كثيراً، ولكن لا يوجد حرب، لا يوجد دمار.
قررت نقل ملفي الجامعي إلى فرع رام الله والبيرة، فبعد محاولات عديدة من التواصل مع جامعة القدس المفتوحة تمكنت من اتمام الخطوة، وها أنا أستكمل تعليمي الجامعي عن بعد في تخصص الإعلام. هذا الاحتلال الذي حرمنا التعليم وكل شي، أواصل مسيرتي التعليمية في الجامعة رغم أنفه.
آملين من الله أن يحفظ غزة وفلسطين، وأن ينتقم ممن عادانا وممن ظلمنا.
طالب من فرع غزة سابقاً وحالياً في فرع رام الله والبيرة