رام الله-المحرر-سونا الديك- في أجواء غمرتها الأحاسيس الدافئة والمشاعر الدافقة، تخاطب بلسم علام والدها، بكلمات ليست كالكلمات، حين تعطلت لغة الكلام، فحلت محلها لغة الإشارة، لكن ذلك لم يمنعه من التعبير عن حبه لابنته البكر وعن فخره بها، وهي تعبر أيضًا عن اعتزازها به وتقديرها لتضحياتِه لتثبث له أنه السند الحقيقي والحضن الدافئ لها ولأشقائها تحت سقف منزل يضم شقيقين وشقيقتين ووالدتهم، أصبحت لغة الإشارة أداة التواصل لاشعوريًّا.
بلسم علام (24) عامًا ولدت في بلدة كفر الديك غرب محافظة سلفيت، لكن نشأتها جاءت في ظروف خاصة، فحين بدأت تدرك بعضًا من تفاصيل الحياة، اكتشفت أن والدها فاقد للسمع والنطق، واجهت صعوبة في التواصل معه، فقررت اجتياز الحواجز أو هدمها على طريقتها، من خلال الالتحاق بجامعة فلسطين التقنية (خضوري) ودراسة لغة الصم والبكم أو لغة الإشارة.
ربما لم يكن ذلك حلمها أو طموحها، ربما كانت تحلم بتخصص آخر، لكنها وضعت حدًّا لأنانيتها في الاختيار، لتعيش تفاصيل الأبوة مع أبيها، ولتكون لغة التواصل بينه وبين شقيقتها الصغرى وشقيقيها ووالدتها.
وحول البدايات، تعود بلسم بالذاكرة إلى الوراء، لتستذكر بداية العزم على اتخاذ القرار المصيري، فتقول: “بعدما أنهيت مرحلة التوجيهي، كنت أطمح لدراسة الصحافة والإعلام، وبعد تفكير عميق قررت التخصص في لغة الإشارة، بدافع إيجاد لغة تواصل مع والدي، توجهتُ إلى جامعه فلسطين التقنية خضوري فرع رام الله، فقد كنت شاهدةً على كم المعاناة التي يعانيها والدي خلال التواصل معنا ومع أشقائه وشقيقاته، كنت أتذكر أيضًا مواقف كثيرة كان البعض يتجنب فيها الحديث مع والدي أمامي لعدم قدرتهم على التواصل معه، هذه المواقف شجعتني على إيجادِ وسيلة لكسر العزلة عن والدي.
وتضيف: “خشيتُ في البداية من رفض أهلي لدراسة هذا التخصص، لكني تفاجأت بكمِ التشجيع الذي حصلتُ عليه من والدي ووالدتي وعائلتي وحتى من المحيط، وهذا التشجيع ساعدني على اجتياز كل الحواجزِ والصعوبات والعراقيل”.
كيف كان لدراستها تأثير على آلية التواصل مع الوالد، تقول بلسم: “كان تواصلنا مع والدي في البيت بإشارات خاصة بنا، وعندنا تخصصتُ في لغة الإشارة اختصرت كثيرًا من حركات الأيدي لإيصال الفكرة والكلمة لوالدي، أيضًا علمت عائلتي بعضًا من أدوات التواصل مع والدي الذي دومًا ما يعبر عن سعادته بلغته، بعدما سهلنا عليه التواصل والتعبير عبر لغة الإشارة، وكنتُ حلقةَ الوصل بين والدي وأسرتنا ومحيطنا الأسري والمجتمعي”.
بلسم لا تنكر فضل التواصل المسبق مع والدها وانعكاسه على دراستها، فلم تجد صعوبةً في تعلم لغة الإشارة أثناء التخصص، فقد مرت بتجربةٍ عمليةٍ على مدارِ سنواتِ طفولتِها، فالتحقت بالتخصص ولديها خبرة عملية في مجاله، رغم وجودِ بعض الاختلافاتِ بين اللغة التي اعتادت على التواصل بها مع والدها وبين دراستها في الجامعة.
الحافز الأكبر لبلسم خلال دراستها كان إحساسها بالفرح والفخر اللذين يملآن عيني والدها، فهو السبب وراء التحاقها بهذا التخصص، الذي أيضًا صنع سعادتها وهي تتواصل مع من هم على شاكلةِ والدها الذين أفقدتهم الأقدار القدرة على التخاطبِ بلغةِ الحروف والكلمات والأصوات فتواصلوا بلغةِ الإحساس والعيون، ممن تعرفت عليهم بلسم وقرأت في عيونهم وإشاراتِهم أحلامهم وطموحاتِهم، وهم يحدثونها بحب وطمأنينة.
لغة الإشارة (أو لغة الأيادي) تتكون من آلاف الإشارات، وتعد وسيلة التواصل غير الصوتية التي يستخدمها ذوو الاحتياجات الخاصة سمعيًّا (الصم) أو صوتيًّا (البكم)، وهي عبارة عن رموز حركية بصرية تستعمل بترتيب ونظام معينين، وتعتمد بشكل أساسي على استخدام اليدين في التعبير عن الأفكار، وتوصف أيضًا بأنها عميقة وغنية ومعبرة للغاية، تعتمد أبجدية خاصة يترجم فيها الحرف أو الكلمة بحركة، وتستخدم فيها اليدان للتعبير عن المراد بالتزامن مع تحريك الشفاه ولغة الجسد أو الملامح، وإذا كان خير الكلام ما قل ودلّ فلغة الإشارة أكثر بلاغًا وإيجازًا، فأحيانًا وبواسطة إشارتين في ثانية واحدة بالإمكان التعبير عن جملة كاملة بكلماتٍ متعددة.
وتُقدر آخر الإحصائيات في فلسطين، عدد الصم في غزة والضفة بنحو(24) ألف شخص، ما زالت حقوقهم تائهة ومبعثرة، رغم الجهود التي تبذلها بعض المؤسسات غير الحكومية والمؤسسات الخيرية، لكن بلسم الفتاة المعجبة بأبيها لاختراق جدران الصمت وإخراج والدها من العزلة المفروضة عليه بالتواصل بلغة الصمت بعيدًا عن عالم الضجيج، كونها -أي لغة الإشارة- المنفد الوحيد، فهو كما تقول، لا يسمع ولا يتكلم لكنّ إحساسه تعجز عن وصفه اللغة المحكية.
وحسب إحصاءات الاتحاد العالمي للصم فإنه يوجد حول العالم نحو(72) مليون أصم،(80) في المئة منهم يعيشون في البلدان النامية، ويستخدمون أكثر من(300) لغة إشارة، لكنّ هناك لغة إشارة دولية يستخدمها الصم في اللقاءات الدولية، وتعتبر شكلًا مبسّطًا من لغة الإشارة وذات معجم لغوي محدود، ولا تتسم بالتعقيد.