رام الله-المحرر- سلام منصور- في سجون الاحتلال، حيث تزداد الظروف قسوةً، ويتسلل الألم إلى أعماق النفس، ينطلق شعاع من الأمل عبر قصائد وأعمال أدبية يبدعها الأسرى. هؤلاء الذين رغم أسرهم الجسدي يجدون حرية روحية وفكرية في كلماتهم، فينسجون عالماً من الأمل والثقافة يعبرون من خلاله عن معاناتهم، أحلامهم، وآمالهم.
ثقافتهم تجاوزت القضبان لتصل إلى قلوب الناس، وتُحدث فيهم أثراً عميقاً، في هذا اللقاء الذي أجراه موقع “المحرر” يحدثنا الأسير المحرر محمد الصالحي الملقب بـ”أبو الأشبال” عن حياته الأدبية داخل السجون، وهو صاحب ديوان شعري بعنوان “صورتي كانت هناك”. وفيما يلي مقتطفات من اللقاء:
شعر من رحم المعاناة
*يقولون إن الإنسان ابن بيئته، ما هي البيئة التي خلقت منك شاعراً ؟
البيئة التي خلقت مني شاعراً هي رحم المعاناة، أنا خرجتُ من معاناة مخيم اللجوء الفلسطيني “مخيم قلنديا”، كانت على كتفي بندقية وكنتُ ثائراً، لا يوجد علاقة بيني وبين القلم أبداً، أدب السجون هو الذي أقحمني في عالم الشعر، وأصدرتُ كتاباً بعنوان “صورتي كانت هناك”، وهذا كان الكتاب الأول وكانت التجربة الأولى.
صورته كانت هناك
* لكَ ديوانك الشعري الأول بعنوان” صورتي كانت هناك”، تضمن نحو (31) قصيدة، منها: “غريب” و “غربة” و “الصمت” و “يا أيتها الدنيا قولي وداعاً” و “أحبائي” و “أنغام عينيكِ” ، لكن لماذا جاء اسم الديوان تحديداً على اسم “صورتي كانت هناك” ؟
أنا كنتُ في أحلامي دائماً، أرى صورتي معلقة في مخيم قلنديا وتترنح في الهواء، وهناك أشخاص ينسوها وأشخاص يتذكروها، ومع مرور الزمن وعشرات السنين في الأسر أصبحت ذكرانا نحن الأسرى في طي النسيان، فكان جسدي هنا داخل السجن وصورتي هناك.
رثاء للحرية
*تقول تعددت قصائد الرثاء في هذا الديوان، منها: “رثاء الحرية” و “رثاء بندقيتي”، أليس غريباً أن يرثي الإنسان حريته وأن يرثي المناضل بندقيته ؟
أرثيتُ حريتي لأني كنتُ أشعر أنني لن أخرج من السجن نهائياً، والأسير بحد ذاته يكون كتلة عاطفية، أحياناً يذهب إلى التشاؤم وأحياناً إلى التفاؤل، والأسير الأديب في السجن إذا حشر نفسه في زاوية لا يخرج منها، وأنا حشرتُ نفسي في زاوية التشاؤم؛ لذلك رثيتُ حريتي ورثيتُ بندقيتي.
الأسرى لا يعيشون في فنادق
*تبدأ مقدمة ديوانك بالقول: “معنى أن تكون أسيراً، يساوي الحرمان، الحرمان، هذه الكلمة التي تحمل في معانيها كل الألم والمعاناة والحاجة الماسّة لمنفس صغير اسمهُ الحرية يساوي الحياة”، ما الذي تعنيه الحرية لك سواء كأسير عاش ويلات السجون أو كمحرر يعايش كل يوم تفاصيل شعب ما زال يعيش تحت الاحتلال ؟
أنا إنسانٌ حُر كنتُ أدافع عن حريتي وعن كرامتي، وكنتُ أبحثُ على مستقبل لأولادنا يعيشونه بشكل أفضل من مستقبلنا وأفضل من حياتنا، هذه حريتي وهذا رثاء حريتي وهذه كلمات حريتي، وتكلمت عن الأسر “معنى أن تكون أسيراً” لأنه يوجد الكثير من الناس من يجهلوا معنى أن تكون أسيراً، يظنون أننا نعيش في فنادق، نحنُ لم نعش كذلك، بل نحنُ نعيش في زنازين عتمة، وكنتُ أكتب أو أرسم مستثمراً الضوء الذي يأتي من الطاقة الصغيرة.
حنين إلى الأم
*تقول في قصيدة لك بعنوان “في عيدك يا أمي”، أمي الغالية، أين أنتِ؟ عودي إليّ. حرموني أبي منذ الصغر والآن أمي. ما الذي يعنيه الفراق بالنسبة لك؟ أوأي مواقف الفراق كانت أصعب التي عشتها في حياتك ؟
عندما كتبتُ قصيدة لأمي كتبتها في يوم الأم، وتذكرتُ حرماني من أبي، أبي عاش قبلي في السجن (12) عاماً، عشتُ مع أبي (6) أعوام فقط، هذه الـ الأعوام الستة لم تكن كفيلة كي أتعرف على أبي، حرموني أبي منذ الصغر، وعند الكبر حرموني من أمي، الأم ليس لها عُمر، لو كان عمري (70) عاماً سأبقى أحن لأمي، الأم والأب ليس لهما عُمر؛ لذلك عندما كنتُ أَذكر أمي أذكرها بألم، لأنني حُرمت منها، وأنا رجعت في هذه القصيدة طفلاً صغيراً، كنت أقول:”حرموني من أمي، أعيدوني لأمي”.
ليسوا “مجرمين”
*لقد كانت السجون على مر السنين دافعاً لميلاد العديد من الأدباء، كيف تقيّم واقع “أدب السجن” خاصة في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها الحركة الأسيرة ؟
الأسير الفلسطيني يختلف عن الأسرى في العالم كله، الأسير الفلسطيني أسير مثقف ومتعلم، نحنُ لسنا مجرمين، السجون للمجرمين، نحن الأسرى الفلسطينيين بعكس العالم كله، نحنُ مدافعون عن حرية، وفي داخل السجون الإسرائيلية يوجد هناك من جميع شرائح المجتمع الفلسطيني، يوجد الطبيب، والمهندس، والمعلم، وعامل البناء، وأنا في السجن أستطيع أن أتعلم أي شيء أريده؛ لأن المجال متاح.
إكمال التعليم داخل السجون
* أكملتَ دراستك الثانوية وبعد ذلك الدراسة الجامعية، حدثنا كيف كانت تجربة الدراسة داخل السجن ؟
عندما دخلتُ السجن لم يكن هناك علاقة بيني وبين القلم أبداً كما ذكرتُ سابقاً، داخل السجن تعرفتُ على أدب السجون، وكان من الضروري جداً أن أكمل مسيرتي التعليمية، أكملت الدراسة الثانوية ونجحتُ بتفوق الحمدلله، وانتقلتُ إلى الدراسة الجامعية والحمدلله رب العالمين وفقني ربي، واليوم حصلت على درجة البكالوريوس في “الخدمة الاجتماعية”، وكان لدي مشروع أن أكمل دراسة الماجستير، ولكن كان الوقت لدي ضيق في السجون، لأني كنتُ نشيطاً وعاملاً داخل السجن.
موهبة في الرسم
*كنت مبدعاً في الرسم، هل لك أن تسلط لنا الضوء على هذا الجانب الإبداعي من حياتك؟ وكيف كنتَ ترسم وأنت في السجون ؟
كانت لدي موهبة الرسم منذ الصغر، ونميت موهبتي داخل السجن، كنتُ داخل السجن أرسم أكثر شيء الفلكلور الفلسطيني، الفتاة الفلسطينية التي ترتدي الثوب الفلسطيني، العجوز الفلسطينية التي ترتدي الثوب الفلسطيني وتحمل على رأسها الجرة، العجوز الفلسطيني الجالس تحت شجرة الزيتون الكبيرة التي زرعها جدّه ويضع الحطة “والعقال” ويرتدي الزي الفلسطيني، هذا أكثر شيء كنتُ أرسمه، وأصبحتُ مبدعاً في الرسم داخل السجون.
نحو مزيد من الإبداع
*ما هي خططك المستقبلية فيما يتعلق بإنتاجك الإبداعي سواء في الشعر أو الرسم ؟
أقومُ حالياً بجمع جميع القصائد التي كتبتها، وهذا سوف يأخذ مجهوداً كبيراً، لأنه يوجد ديوانان شعر لم يُطبعا حتى الآن، وأيضاً الديوان الأول “صورتي كانت هناك” نصفه لم يُطبع، تم طباعة (33) قصيدة وهذه نصف الديوان وليس كله، في الأصل يتضمن الديوان (60) قصيدة تقريباً، أنا اليوم أقوم بجمع القصائد وجمع اللوحات التي رسمتها وأخرجتها في السجن، أخرجتها من السجن على مر السنوات عند أصدقاءٌ لي، ولدي مشروع عرض صور وشعر.
محمد الصالحي في سطور
محمد حماد الصالحي يعود أصله إلى قرية بير ماعين المهجرة عام (1948م)، وهو من سكان مخيم قلنديا. ولد في (10 آذار 1978م)، تم إعتقاله في (26 حزيران 2001) كان عمره (23) عاماً، وحكم بالسجن لمدة (23) عاماً. كان الصالحي مطارداً لدى الاحتلال الإسرائيلي، وهو مؤسس كتائب شهداء الأقصى في منطقة القدس، كان يعمل في أحد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ومدرب وحدات خاصة. وكان يلقب داخل السجن بـ “أبو الأشبال”.
الصالحي هو الأوسط بين (5) أشقاء، تم الإفراج عنه في تاريخ (26 حزيران 2024م) ، وتزوج حديثاً، ويبلغ من العمر حالياً (46) عاماً.