الرئيسيةمقالات وآراءفي حضن العلم: شهادة مريم عن حرب تسحق الإنسانية

في حضن العلم: شهادة مريم عن حرب تسحق الإنسانية

لانا شعبان*

في وطنٍ تمزقه الحروب، حيث احتلالٌ يقضم الأرض، في هذا الفضاء، باتت الجامعة أشبه بجسرٍ يربط الأجيال ببعضها، مساحةٌ تعلو فوق الحروب، لتبقى شاهدًا على قدرة العلم على التغلب على كل الأزمات.

كانت القاعة الإلكترونية في برنامج الدكتوراة في الارشاد التربوي والنفسي، تضم قلوبًا متشابكة، بعضها جاء من غزة المحاصرة، وبعضها من رام الله المكلومة، والبعض من شمال الضفة وجنوبها الجريح، تحت سقف واحد جمعه العلم رغم أهوال الاحتلال وويلات الحرب. كانت المحاضرة بعنوان “الأزمات النفسية الناتجة عن الحرب الإسرائيلية على غزة”، لكنها تحولت إلى نافذة نطل منها على جحيم لا يمكن أن يستوعبه عقل أو يتحمله قلب.

     دخلت مريم نجار القاعة الإلكترونية  بصوت يحمل ندوب الزمن وآثار النكبات. بدأت تسرد قصتها كما لو كانت تحكي مشاهد فيلم خيالي مرعب، لكنه هذه المرة من صنع البشر، حيث غابت كل معاني الإنسانية. تحدثت عن أزقة غزة التي رأتها في طريق نزوحها، عن المنازل التي سويت بالأرض، عن الجثث التي تأكلها الكلاب، وعن الأصوات التي تلاشت تحت الأنقاض. وصفت مشاهد الأطفال الذين يُنتزعون من بين أحضان الحياة ليُدفنوا في حضن الموت. لم يكن كلامها محض كلمات، بل جرح نازف، يحمل كل آلام المحاصرين وكل خيبات المنسيين.

    تحدثت عن الأزمة النفسية، حيث يغيب العلاج وتوشك أبواب الإرشاد أن تغلق أمام الذين يحملون على أرواحهم عبء الحرب. ذكرت كيف أصبح الصراخ صمتًا، وكيف تحول الحزن إلى طيف دائم في ملامح الناجين. أشارت إلى أزمة الإخلاء والإنقاذ، حيث يُترك الجريح ينزف حتى الموت، تحت أنقاض لا يسمح الاحتلال بلمسها، وحيث تُستهدف فرق الإنقاذ مرةً بعد أخرى، وكأن الإنسانية قد انتُزعت من قلب هذا العالم. لم تنسَ أن تتحدث عن أزمة الإعلام، الذي بالكاد ينقل واحدًا بالمئة من الحقيقة، وبتحيزٍ صارخ يُظهر غزة وكأنها المعتدي لا الضحية، وكأن شعبها يقف في مواجهة دولة، لا جيش احتلال بترسانة عسكرية جبارة.

وكذلك وصفت مريم أزمةً لم يعرفها العالم من قبل، ولم تذكرها كتب علم النفس أو مراجع إرشاد الأزمات: أزمة الجثث. تحدثت عن مقابر جماعية لمجهولي الهوية، وعن انعدام القماش اللازم لتكفين الموتى، مما اضطر العائلات إلى دفن أحبائها في زوايا منازلهم التي لجأوا إليها بعد أن نفد الطعام أو بعدما نزف أقاربهم حتى الموت دون إسعاف. كما كشفت عن نبش الاحتلال للمقابر وسرقة الجثث، تاركًا أثرًا نفسيًا عميقًا في نفوس الناجين. وأي أثرٍ نفسي يمكن أن يعيشه من بقي على قيد الحياة في مواجهة هذه المشاهد؟ وأي مرشد نفسي مهما بلغ من علمٍ وخبرة يمكنه التعامل مع أشخاص عاشوا هذه الكوارث التي تخترق حدود الإدراك الإنساني؟

مع مرور الوقت، خنقتنا الكلمات، وضاقت أنفاسنا من هول ما نسمع. لم نكمل المحاضرة؛ عجزت إنسانيتنا عن احتمال تلك الصور التي حملتها مريم. بقيت القاعة  الألكترونية في صمت ثقيل، حيث اختلطت الحسرات بالدموع، وساد شعور بالعجز أمام عالم يقف متفرجًا على مأساة بحجم فلسطين. واجهشنا بالبكاء.
إن الحرب ليست فقط قذائف تسقط وأجساد تفنى، بل هي أيضًا أرواح تتكسر، وقصص تُطمس، وذاكرة تُغتصب. إنها عملية منظمة لاقتلاع الإنسان من ذاته، وجعل الألم جزءًا من تفاصيل يومه. نحن في عالم فقد بوصلته الأخلاقية، عالم يتباهى بتقدمه العلمي لكنه يتراجع أخلاقيًا إلى دركٍ عميق. ما قالته مريم ليس حكاية عابرة، بل شهادة حيّة على موت الضمير الإنساني، وربما يكون واجبنا اليوم ليس فقط أن نروي هذه المآسي، بل أن نُحيي ما مات في أرواحنا من شجاعة لإيقاظ العدالة وإنقاذ ما تبقى من إنسانيتنا.

*طالبة دكتوراه في برنامج الإرشاد التربوي النفسي -جامعة القدس المفتوحة