الرئيسيةرئيسيشُعلة فن وإرادة تُداوي آلام "إعاقة"

شُعلة فن وإرادة تُداوي آلام “إعاقة”

رام الله – المحرر- أحمد السيد أحمد وليدا يوسف – في ركنٍ على رصيف محاذ لدوار الساعة وسط مدينة رام الله، يتربع “كشكٌ”، متواضع يحمل في طياتهِ قصة كفاح لا تُنسى، هناك، بين دفء أشعة الشمس وظلال المباني المحيطة، يجلس الشاب حسام خضير(45) عاماً، بوجه ارتسمت عليه تعب السنين وشقائها،  لكنه بعزيمة لا تلين، وروح تحلق بلا قيود، يتحدى إعاقته الحركية، محولاً هوايته في الرسم إلى مهنتة تعيله وأسرته.

تحديات الإعاقة منذ الطفولة

منذُ مهدِ طفولته، بدأت رحلتهُ مع الإعاقة الحركية في عمر الأربع سنوات، وقع على قدمهِ اليسرى، ما تسبب في كسر في ركبته، منذ تلك اللحظة، بدأ الألم يتدفق كالنهر، ممتداً من منطقة الرِجل إلى الحوض، ليذيبَ الغضروف مع مرور الزمن، هذا الألم أصبح رفيقه الدائم، يجتاح أيامه بلا رحمة، ودون وجود علاج يسكنه.

حينما أصبح عمره (11) عاماً، تسلل ضمور العضلات إلى جسد حسام كضيفٍ غيرَ مرحبٍ به، وعندما بلغ السادسة عشر، توقفت قدرته على المشي تمامًا، وأصبح عاجزًا عن تحريك أطرافه.

كانت الإعاقة تامة بنسبة 100% حسب تشخيص الأطباء، ما جعل حياته معركة يومية في مواجهة تحديات لا تنتهي.

موهبة الرسم

مع بداية إعاقته، وجد حسام نفسه محاطًا بوفرة من الوقت الذي كان يقضيه في المنزل، حيث بدأ بممارسة هواية الرسم، في البداية، كان يرسم بيديه، ولكن مع تقدم مرض ضمور العضلات، انتقل للرسم بفمه، ليبتكر لوحات تعبر عن الأمل والأرض والزيتون.

موهبته لم تكن وليدة صدفة، بل جاءت نتيجة جهد كبير بذله لتطويرها دون اللجوء إلى أي مراكز تعليمية، فبعد المسافة، وعدم تهيئة البنية التحتية في هذه المراكز لتلبية احتياجات ذوي الإعاقة كانا سببين رئيسين  لعدم الانضمام لها.

ومع مرور الوقت، لم يعد يعير انتباهاً لموهبته بسبب انشغاله في البيع على “البسطة”، ولم يعد يجد الوقت الكافي لممارسة الرسم، إلا من خلال تطبيقات الجوال، ليظل محافظًا على شعلة فنه رغم كل الصعوبات.

بداية التحدي والإنجاز

في بداية عمله، سكن حسام شعور من الشك بأنه “متسول”، ما أشعل في نفسه الغضب والتحدي. رفض الصدقات وأصر على إثبات ذاته بعمله.

عام 2003، حصل على كرسي كهربائي من الرئيس الراحل ياسر عرفات، ليكون جسر عبوره من العزلة إلى المجتمع. بدأ ببيع البضائع على كرتونة، ومع الوقت، انتقل إلى عربة صغيرة ثم إلى كشك أكبر.

هدفه كان تغيير النظرة النمطية لذوي الإعاقة، وأثبت بفضل إصراره وتفانيه أنه بائع طموح، وليس متسولًا، ما جعله نموذجًا يحتذى به. ومنذ عام 2014، استمرت تجارته بنجاح بفضل عمله الدؤوب وإصراره.

التفاف الأسرة حوله

في بداية مرضهِ، كانت والدة حسام تسهر على راحته، تلبي كل احتياجاته بلا كلل أو ملل، مثل شمس لا تغيب عن سماء حياته، لقد كانت والدته بحق هي السند الدائم له، ولطالما تذكرها عندما كانت ترسله لشراء حاجيات للمنزل، تذكر نفسه في كَنف عائلته عندما كان يتنقل في السوق زائراً لوالده الذي كان يدير محل نجارة، وعلق في ذهنه شقيقه الأكبر برفقة والدهما في جو عائلي مليء بالدفء والحنان، تلك اللحظات العائلية كانت تشكل جزيرة من السعادة في بحرِ التحديات.

لكن هذه الرحلة لم تكن سهلة، فقد توفيت والدته، ما مثل فترة انتقالية ثانية لرعايتهِ بين أفراد العائلة، كأنهم يتناوبون على حمل شعلة الأمل التي أشعلتها والدته.

المكان الأقرب لروحهِ

دوار الساعة في رام الله كان ملاذًا للراحة والأمان لحسام، تردد عليه مع أصدقائه بحثًا عن عمل، واكتشف فيه مكانًا حيويًا وهادئًا في الوقت نفسه، قربه من محل والده للنجارة ربطه بالمكان بشكل أعمق، ليصبح جزءًا من حياته اليومية، حيث هناك يعرفه الجميع وينتمون له وينتمي لهم، فهذا المكان أصبح ملاذه وسط التحديات، ومنبعًا للأمل والتفاؤل.

مسارات الأمل

قبل عقود، واجه حسام صعوبة كبيرة في التنقل في المدينة بسبب عدم وجود مسارات مخصصة لذوي الإعاقة في المباني والمرافق العامة. كانت كل خطوةٍ نحو الحرية تشكل تحديًا كبيرًا، لكن اليوم تغير الوضع بفضل القوانين الجديدة التي تلزم أصحاب العمارات بتوفير هذه المسارات، ما سهل حركة حسام ومكنه من تحقيق المزيد من الإنجازات.

دعوة للتفرد والأمل

تتجلى رسالة حسام في دعوتهِ لكل إنسان ذي إعاقة بألا يربط أحلامه ومتطلباته بشخص آخر يعاني الحالة، نفسها، فلكل فرد ظروفه ومتطلباته الخاصة، ويجب على كل إنسان أن يبني مشروعه الخاص وفقًا لطبيعة إعاقته وقدراته، ويطوره حسب البيئة أو المكان الذي يعيش فيه، ليكون هذا المشروع مصدرَ رزق له ويمنحه الاستقلالية، بهذه النظرة المتفائلة والإصرار لتحقيق الذات، يحمل حسام شعلة الأمل لمن يسيرون في الدرب ذاته.

طموحه للمستقبل

“لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس”، كلمات رددها حسام بقلبه قبل لسانه، مجسدًا طموحه في تطوير ذاته باستمرار، بدأ رحلته من الصفر، ببضاعة بسيطة على كرتونة صغيرة وبرأس مال قدره (200) شيقل، ليتحول مع الزمن إلى بائع ناجح.

الإعاقة لم تكن يومًا حاجزًا لعقله؛ فقد كانت إعاقة جسدية واجهها بإرادة صلبة، فرسالته كانت واضحة”يجب على ذوي الإعاقة أن يعكسوا صورة إيجابية للمجتمع، وأن يذللوا الصعاب لتحقيق النجاح”.

حسام أثبت أن القدرة على الفعل والعطاء لا تحدّها الإعاقة،  فالإرادة وحدها كفيلة بجعل الإنسان قادراً على تحقيق أهدافه، وتسلق سلم النجاح، من بوابة الأمل والتصميم.