رام الله- المحرر-محمد بنات-في قلب ظلام السجون، حيث تذبل أيام الحياة تحت وطأة الجدران الباردة، وتهجر الأحلام بين زوايا النسيان، يعيش أسير قضى ثلثي عمره داخل السجن. حكم عليه بالسجن بالمؤبد وخمسةَ عشر عاماً، نصفها قضاها في عناء السلاسل، ونصفها الآخر ما زال ينتظره ولا يعلم ما مصيرها سيكون!
هل يمكن لروح الإنسان أن تُكسر تحت وطأة التعذيب والحرمان؟ أم أن شعلة الأمل لن تنطفئ في قلب الأسير أشرف نوفل رغم كل ما مر به من عذابات؟
الحياة قبل الأسر
ولد أشرف في قرية دير شرف بمحافظة نابلس، وسط أجواء قروية بسيطة ومفعمة بالحياة، لكن حياته أخذت منعطفًا مبكراً عندما فقد والده في حادث سير وهو لا يزال شاباً. كونه الابن الأكبر، وجد نفسه مسؤولاً عن عائلته في سن صغيره، والأب الروحي لإخوته وأخواته، اضطر لترك مقاعد الدراسة في المرحلة الإعدادية ليعمل، ويؤمن احتياجات إخوته، متحملاً أعباء كبيرة بثبات وإصرار.
رغم هذه المسؤوليات الثقيلة، كان أشرف دائماً يحمل في قلبه روح التحدي والمقاومة، كانت قريته كغيرها من القرى الفلسطينية تعاني من الاحتلال الإسرائيلي، ما دفعه للانخراط مبكراً في العمل الوطني.
بداية النضال الفدائي
مع اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987، وجد أشرف نوفل نفسه ينخرط في صفوف المقاومة مثل بقية الشباب الأحرار، حمل على عاتقه حرية أبناء شعبه الفلسطيني، وأمانة النضال والفداء لتحرير الوطن ، كانت الانتفاضة رمزاً للصمود والتحدي للشعب الفلسطيني، وأشعلت في قلب أشرف نار النضال، بدأ في تنفيذ عمليات فدائية للدفاع عن تراب وطنه ليصبح واحداً من أبرز المقاومين في منطقته.
كان لأشرف سجل مليء بالعمليات البطولية التي نفذها ضد قوات الاحتلال، يتداولها الأسرى الذين عاشوا معه وخرجوا من السجن حكايات بطولاته، وكذلك أهل قريته.
حاول اغتيال رئيس مستوطنات شمال الضفة الغربية، وهي العملية التي جعلته هدفاً لقوات الاحتلال، ومع انتفاضة الأقصى، واصل نشاطه ضمن خلية فدائية خططت لتنفيذ عمليات نوعية ضد الاحتلال، أبرزها محاولة تفجير حافلة تنقل المستوطنين على طريق بين مدينتي نابلس وجنين.
الاعتقال والحصار
في الرابع والعشرين من أيار عام 2001، حاصرت قوات كبيرة من الاحتلال منزل أشرف القريب من مستوطنة “شافي شمرون” لمدة تزيد عن سبع ساعات، كانت القوة مدججة بالطائرات والدبابات، وبعد مقاومة شرسة، اعتقل أشرف وشقيه الأصغر لؤي، مثلت تلك اللحظة نقطة تحول في حياة العائلة، إذ أدركوا حجم التضحيات التي ينتظرونها.
تضييق الخناق وأحكام السجن
في بداية اعتقاله، حُكم على أشرف بالسجن (15) عاماً، ثم زيد الحكم إلى (25) عاماً، بعد ثلاث سنوات اكتشف الاحتلال أنه مؤسس خلية حاولت اغتيال السفير الأمريكي في رام الله عام 2002، وأيضاً أحد افراد خلية الفهد الأسود فحُكم عليه بالمؤبد و(15) عامًا إضافية.
عقدت عدة صفقات لتحرير الأسرى، لكن مصلحة السجون رفضت الإفراج عنه لأنه كان من الناشطين داخل السجن في مواجهة الاحتلال أكاديمياً وحركياً.
الحياة خلف القضبان
رغم القيود، لم يسمح أشرف للسجن أن يكسر روحه داخل السجن، أصر على تحويل محنته إلى فرصة للتعلم والبناء.
بدأ بدراسة الثانوية العامة، ليحصل بعدها على درجة البكالوريوس في العلوم الاجتماعية من جامعة القدس المفتوحة، لم يتوقف عند هذا الحد، بل واصل دراسته ليحصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة فلسطين في غزة.
تحول أشرف إلى معلم ومرشد داخل السجن، كان يدرس الأسرى الأشبال، يعلمهم القراءة والكتابة، وكان مسؤولاً عن تعليم الأسرى تاريخ وجغرافيا فلسطين وقضاياها. ويزرع فيهم الأمل والمعرفة، كما لعب دوراً كبيراً في قيادة الحركة الأسيرة، مدافعاً عن حقوق الأسرى وظروفهم المعيشية.
الألم العائلي المستمر
غياب أشرف ترك أثراً عميقاً على عائلته، خاصة ابنه عاصف وابنته الصغيرة التي كانت تبلغ من العمر ستة أشهر فقط عند اعتقاله، يقول عاصف: “الأب هو سند الأسرة، وغيابه عن حياتنا اليومية كان مؤلماً، خصوصاً خلال مراحل الدراسة، كنت أحلم بأن يكون والدي بجانبي في حفلات التكريم، أو يومي المفتوح في المدرسة، مثل باقي الأطفال”.
لكن أكثر اللحظات ألماً للعائلة كانت وفاة ابنة أشرف الكبرى عام 2003 أثناء وجود والدهم في الأسر، حيث قام المحققون بأبشع الأساليب بإبلاغ أشرف كذباً بأن ابنتيه قد توفيتا، ما أصابه بصدمة كبرى.
الزيارة الأولى وصدمة اللقاء
بعد أربع سنوات ونصف السنة من اعتقاله، تمكن أفراد من العائلة من زيارته في سجن “بئر السبع”، تلك الزيارة كانت مليئة بالمشاعر المختلطة، تفاجأ أشرف بابنته الصغيرة التي كبرت وأصبحت طفلة. في تلك اللحظة، أجهش بالبكاء، وأخذ يكبر ويصيح، بعدما تأكد أنها لا تزال على قيد الحياة.
عاصف التقى بوالده لأول مرة في سجن “هداريم” عام 2005، كانت تلك المرة الوحيدة التي تمكن فيها من لمس والده، الذي قرصه في ظهره بقوة ليقول له” هذا لتتذكرني دائماً”، كانت تلك لقطة لا يمكن لعاصف أن ينساها، فالسنين تمر ثقيلة، ولمسة حنان والده مازالت قابعة في سجون احتلال تجرد من آدميته.
مواقف صعبة
لم تتوقف المآسي عند هذه اللحظات، ففي عام 2022، توفيت والدة أشرف، التي كانت سنداً كبيراً للعائلة، تمكن أشرف من تهريب مكالمة فيديو من داخل سجنه بصعوبة ومعاناة، لحضور مراسم دفن والدته عبر الهاتف. يروي عاصف”فتحت نعش جدتي لأتيح لأبي فرصة إلقاء نظرة الوداع الاخيرة عليها، كانت تلك اللحظة مؤلمة بشكل لا يوصف”.
حلم بسيط لكنه عظيم
رغم مرور أكثر من عقدين على اعتقاله، لا يزال أشرف نوفل متمسكاً بالأمل، هو يحلم في كل لحظة أن يعانق الحرية، وأن يتنفس هواء وطنه دون قيود، هذا الحلم يبقيه صامداً، ويمنحه القوة للاستمرار رغم قسوة السجن.