*إغراق العالم بالنصوص والمواد المسموعة والمرئية وتحييد المجهود جانباً
رام الله – المحرر- محمد جميل – أن يواكب الإنسان التطور حول العالم، فهذا هو المطلوب، وأن يُسخِّر الأدوات التكنولوجية لخدمته، فهذه هي طفرة في الإدارة، وأن يُكثِّف الإنتاج ويضبط الجودة فهذه هي ثمرة الخبرة، والصحيح ألا أحد بوسعه أن يقف في وجه التطور، ولا أحد بمقدوره أن يضع العصي في دواليب التقدم، فالتاريخ يمضي إلى الأمام يطرح فكرة في تناقض مع أخرى، ليأتي بثالثة جامعة بينهما، والذكي الفَطن هو من يلتقط ذلك ويتقنه ويسخره في نفعه ونفع الناس.
لكن أن يكون التطور إيذاناً بتدمير روحّية الإنسان وخصوصيته، فهذا تطوّر بحاجة إلى وقفة ومراجعة، وفتح حوار حكومي ومجتمعي واسع للحد من مخاطره، ويُقصد هنا “الذكاء الاصطناعي” أو ما يصطلح عليه اختصاراً “Ai”، إذ فرض نفسه على حين غرّة على المشاهد الإنسانية كلها دون مقدِّمات كافية، وباتت حقيقةً لا مناص منها أن الناس في مستويات رسمية وشعبية، أمسوا يتحدّثون عن التغييرات الناجمة عن استخدامه كتحدياتٍ حقيقية ستطال استقرارهم في شتى المجالات، وذلك في ظل حضوره الجاثم شبحاً فوق مستقبلهم.
القصة من البداية:
لقد كان اكتشاف الورق نوراً هدى الأجيال لتوثيق معارفها وأخبارها، وكان اكتشاف الآلة الطابعة سبيلاً لتوسيع رقعة العلوم عالمياً وتعميمها وبزوغ الصحافة للنور، وكان الحاسب الآلي وشبكة الإنترنت لاحقاً جلاءً لقصص الشعوب وتعريفاً بخصوصياتها وهوياتها، وسبيلاً لنسج علاقات دولية تتبادل فيها الجماعات والأفراد ثقافاتها وخبراتها بحب وترحاب على مستوى الشعوب.
حتى هذه اللحظة من التطورات كانت الإنسانية قادرة على التآلف معها، وإدراك جوانبها السلبية ووضع الحلول المناسبة لها، إلى أن جاء “الذكاء الاصطناعي” فدهمنا دهماً في عامين ونصف أو أقل، من خلال شركة “OPEN AI” التي طرحت نموذجها اللغوي الكبير، صاعقاً الناس بقدرته على أن يجيب ويناقش ويحلل بلغاتهم كلاً من استفساراتهم وأسئلتهم على كثرتها وتشعبها.
تلاه انتشار أوسع لمواقع الذكاء الاصطناعي في مختلف أرجاء شبكة الإنترنت العنكبوتية، حتى خُصص امتداد كامل للدلالة على هذه المواقع وهو (.ai) كأمثال الامتدادات التقليدية التي عرفناها سابقاً (.com) و(.org) ..إلخ.
الذكاء الاصطناعي سيغير شكل سوق العمل تدريجياً فكلياً
في حديث مع خبير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات “مسعود كبها” لسؤاله عن مغبة دخول الذكاء الاصطناعي في السوق العملية والأعمال المؤسسية، أجاب “الذكاء الاصطناعي آخذ في التمدد بسرعة داخل بيئات العمل، وسيجري غضون أعوام قليلة استبدال دوائر وأقسام إدارية بأطقمها كاملة بمهام الذكاء الاصطناعي”.
وأوضح “كبها” أن الأعمال السكرتارية والمحاسبية والأخرى المعتمدة على تحليل البيانات والأرقام وتنسيق المعلومات، ستكون هي الأكثر تهديداً من جملة الأعمال، لأنها لن تكون بحاجة إلا لمدخل بيانات يعمل على تزويد هذه المعلومات للذكاء الاصطناعي الذي سيقوم بأداء الأدوار التقليدية كاملة للموظفين التقليديين.
وبالتطرق إلى مجال عمل دوائر العلاقات العامة والإنتاج المرئي والمسموع، يتوقع “كبها” أن هذه الدوائر لن تنتهي كلياً، لأن خصوصية المؤسسات وسياساتها ستظل بحاجة إلى جهود إنسانية للتعبير عنها، فيما ستظل نماذج الذكاء الاصطناعي بحاجة إلى إعادة توجيه دائمة في هذه المجال، وبالتالي سيكون الذكاء الاصطناعي عاملاً مساعداً لا أصيلاً في هذه الدوائر، وأداةً تضيف وتسهل العمل لا تنوب عن العمال وأدوارهم.
تحسين تجربة التعليم لاستيعاب الذكاء الاصطناعي
وأفاد “كبها” أن السبيل لتعزيز دور القوى العاملة ودمجها في المؤسسات مجدداً يكون بتطوير التخصصات العلمية في الجامعات لتمزج وتتكامل فيما بينها وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، معطياً نماذج مقترحة لهذه التخصصات مثال: “الإدارة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي”، “الطب والذكاء الاصطناعي”..وإلخ من هذه التخصصات المدمجة التي سيكون لها بالغ الأثر في سد الفجوة.
وحذَّر”كبها” من أن الذكاء الاصطناعي مع ذلك لا يزال يهدد بضمور الخبرات والمهارات الإنسانية، وفقدان الشغف اللازم لأداء الأعمال، فهو عندما ينوب ويساعد ويسهل، يفتح المجال واسعاً لترهل الإدارات.
الجانب القيمي والأخلاقي وحقوق الملكية الفكرية والذكاء الاصطناعي
عبَّر الرسام المصري “محمد جمال” منطلقاً من تعريفه الفن على أنه وسيلة اتصال تعمل على إيصال المشاعر في المقام الأول والأخير، وأن استقبال الناس للمجهود البشري المقدَّم بأيدي فنانين ومبدعين مهرة، له أثر مختلف عن استقباله من نماذج الذكاء الاصطناعي التي لا تضع الجانب المعنوي والشعوري جزءًا من آلية تنفيذها للأعمال، لكونها ليست متصلة بسياق اجتماعي من الأساس، لذا سيبقى الفارق دائماً قائماً بين الفن البشري والفن المولّد اصطناعياً”.
وأكَّد “جمال” أن الشركات القائمة على تغذية وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، تنتهك حقوق المستخدمين والفنانين والكتّاب، إذ عملت ولا تزال على تدريب نماذجها على تجارب مستخدميها، دون أخذ موافقتهم، ما يمثل سابقة غير قانونية يجب التصدي لها في أسرع وقت، لأنه من غير العادل بمكان تمكين الذكاء الاصطناعي من محاكاة وتقليد خصوصية أعمالهم التي اكتسبوها بالكدِّ والعرق.
وأضاف “جمال” “ليس ببعيد ما فعلته شركة “Open Ai” من تعدٍ صارخ على حقوق ملكية “Studio Ghibli” لإنتاج “الإنيميشن” الذي ندَّد بدوره عن استيائه وانزعاجه، من سرقة الشركة وتدريبها لنموذجها على محاكاة وتقليد رسومهم”.
لا داعي للانبهار بالذكاء الاصطناعي
وأشار “جمال” إلى أن انبهار الناس بالذكاء الاصطناعي وتطبيقاته أمر مؤقت، فريثما يتعرف الناس على آلية عمله، سيسيطر عليهم الشعور بالاعتياد وسيختفي إعجابهم به تدريجياً، حتى يعود ليأخذ مكانه الطبيعي من الحياة، محذراً من محاولة تضخيم أهميته النابعة برأيه من وهم وتهويل غير حقيقيين.
ودعا “جمال” الناس إلى تعزيز ذائقتهم الطبيعية من الأعمال في الحقول الإنسانية على مختلفها، لأن البصمة الجينية والروحية والنفسية في الأعمال البشرية، ستظل لها الصدارة دائماً وأبداً، فهي تتولد من الإلهام والحدس والطبيعة والوحي، وهذا ما لا يتوفر للآلة، فمهما كانت درجة الاتقان لدى الذكاء الاصطناعي وتوليده للأفكار والنماذج، ستظل ضمن كينونته لكونه كياناً يعمل ضمن الدوائر الحاسوبية والكهربائية.
دعوة لتقبل استخدام الذكاء الاصطناعي باعتدال وحكمة
يرى المصمّم “أحمد الأدريسي” من الأردن “أن الوقوف في وجه الذكاء الاصطناعي غير ممكن، مشبهاً ذلك في عدم قدرة وقوف الصنَّاع في زمن الثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن عشر في وجه الآلات المصنعية، مبيناً أن الذكاء الاصطناعي قد أصبح مفردة من مفردات الحياة، وبالتالي فرض وسيفرض نفسه، ولا بد أن ينظم الفرد والمبدع على حد سواء علاقتهم معه، بدلاً من محاولة التصدي له عبثاً”.
ويضيف “الإدريسي”: “أسوأ ما في الذكاء الاصطناعي أنه مكَّن غير المبدعين، من فرصة محاكاة إنتاج أعمال إبداعية، وبهذا فقد بدَّد القدرة على تمييز المبدع الحقيقي عن المبدع المزيّف، فمعلوم أن المبدع الحقيقي، يقضي سنوات في عمل جاد يصقل من خلاله مهاراته وخبراته، فيما يقدّم الذكاء الاصطناعي نتائج الخبرة لأي عابر سبيل، ضارباً القيّم والقيمة بعرض الحائط”.
ويدعو “الإدريسي” لضرورة استخدام الذكاء الاصطناعي بحكمة في مجال الإبداع لتوفير الجهد والوقت على المبدعين لا الاعتماد عليه كلياً، موضحاً “أن الطلب من نموذج الذكاء الاصطناعي دمج عدد من الصور لإخراج مفهوم ومنظور جديد جامع لها، يوفر الوقت والجهد علينا كمصممين متخصصين، حيث مهمة كهذه تأخذ منا وقتاً كبيراً على حِساب أعمال إبداعية أخرى نحن بحاجة للتفرغ لها”.
فاصلة منقوطة
من غير الممكن حسم الجدل فيما يتعلّق بالذكاء الاصطناعي، ولربما ليس واقعياً طَلب وَقف تطوره المضطرد، لكن تظلُّ المحاولة للحد من آثاره السلبية وتنظيم استخداماته، عبر قوانين ناظمة وحملات اجتماعية هي الحلول الأكثر واقعية واتزاناً، حتى لا يأتي وقت على الأجيال القادمة، وقد فقدت فيه كل متعة تتحقق من اتصالها الصحي مع الطبيعة ومفرداتها الفطروية، فالإنسان لم يخلق ويوجد ليندمج بالآلة وتطبيقاتها وروحها، لسبيين الأول أنه هو من اخترعها وقدّمها لتسهل مهمات حياته، والثاني كي لا نصل إلى أزمة فقدان المعنى، وما أخطرها من أزمة.