رام الله-المحرر-أسيل عمر-في قلب رام الله القديمة، وسط الحارات التي تعبق بالتاريخ، يجلس كمال عبد الغفار سلعوس خلف ماكينة خياطة لا تعرف التقاعد في المحل الذي وُلد فيه وعاش فيه ولم يغادره يومًا، ما زال يحيك خيوط الماضي بحُب ووفاء، كما كان يفعل والده من قبله.
يقول كمال: “أنا أصلي من نابلس، لكن وُلدت في رام الله، ومن ذاك الزمن وأنا هون، في نفس المكان، في نفس الحارة تقريبًا”. هذا المحل الذي يجلس فيه اليوم، بُني عام 1950، واستأجره والده في نفس السنة، ولا يزال عقد الإيجار يحمل تاريخًا لم يتغير.
في الماضي، كان والده يخيط اللباس الفلسطيني التقليدي، قبل أن تتطور المهنة وتُضاف إليها البدلات والبنطلونات واللباس العصري لكنّ كمال لم ينسَ جذوره، ولا يزال حتى اليوم يحترف خياطة اللباس التراثي الفلسطيني، من “الشروال” إلى “الديماية”، ومن “القمباز” إلى “الدامر”.
“أخذت كل شيء عن والدي، بتقنه بشكل ممتاز جدًا”، يقول كمال بفخر لقد أصبح اليوم من القلائل وربما الوحيد الذين ما زالوا يحافظون على هذا النوع من الصناعة، خاصة مع رحيل معظم من كانوا يجيدون هذا الفن ويضيف بأسف: “للأسف، الأجيال الجديدة مش عم تعرف شو يعني ديماية أو قمباز، نسيوا أجدادهم شو كانوا يلبسوا”.
رسالة كمال تتجاوز الخياطة إنها صرخة للحفاظ على الذاكرة يرغب بأن يتعرف الجيل الجديد على تاريخه من خلال اللباس، وأن يدرك أن هذا التراث ليس شيئًا من الماضي، بل هو امتداد لهويته “هذا تراثنا الأصلي، وهذا لباس أجدادنا”، يقول كمال بحرقة.
الغريب أن النساء هنّ أكثر من يتمسك بهذا التراث، بحسب كمال “النساء لسا بيهتموا بالتوب الفلاحي المطرز، وبيطلبوه حتى من برّا، لأميركا وأوروبا” ويضيف أن المغتربين الفلسطينيين يحرصون على شراء الملابس المطرزة عند زيارتهم في الصيف، كأنهم يحملون معهم قطعة من الوطن.
وليس ذلك فحسب، فقد عمل كمال مع العديد من فرق الفنون الشعبية، من فرقة الفنون في البيرة إلى فرق في القدس، عكا، ويافا. كانت كل فرقة تطلب منه أزياء تراثية لتُحيي عروضها، وكان يتجاوب بكل حماسة، معتبرًا ذلك “شيء وطني، وتاريخ لازم نفتخر فيه”.
من على ماكينة خياطة قديمة، يطلق كمال دعوته: “إحنا شعب مشرد ومنكوب… بس عنا جذور، ولازم نرجع نلبس تراثنا، لأنه هذا شعارنا، وهذا وجودنا”.
كمال عبد الغفار سلعوس ليس مجرد خياط هو شاهد على زمن، وراوٍ لذاكرة تُنسج بالخيط والإبرة رجل يحمي الهوية الفلسطينية من التآكل، قطعة قطعة وغرزة غرزة.