قلقيلية-المحرر-فداء أبو منيفي-منذ صغره كان شغوفًا بالتصوير حتى أصبح مصوراً صحفياً حاصلاً على جوائز عالمية ومحلية وموثقأ للتراث الفلسطيني، لقد صعد سلم النجاح بكل ثقة وقام بتغطية أهم الأحداث الفلسطينية ولكن تتغير حياة الإنسان بين عشية وضحاها، حيث إنه قد يواجه ما لم يكن بالحسبان.
في الطريق حكاية
طريق صعبة إلى رام الله، على جانبي الطريق مستوطنات جاثمة يمنة ويسارا وكأنها خلايا سرطانية اخترقت جسد عليل، جنود الإحتلال يحيطون بك على حاجز زعترة مصوبين أسلحتهم اتجاه كل سيارة فلسطينية تمر، وحينما تسير السيارة ببطء خشية من أي رد من الجنود ، تتجاوز دوارا ثم تواصل طريقها جنوبا، تبدأ مرحلة جديدة ، هنا قرية وبجانبها مستوطنة ، وهناك قرية وبجانبها مستوطنة أخرى ، وكأنها قدر للفلسطيني أن يعيش في سجن كبير.
حينما تصل إلى رام الله بعد أن تتجاوز حاجز “بيت ايل” تترائى أمامك عمارات سكنية ضخمة تنتشر في كل أرجاء المدينة وكأنك أمام صناديق اسمنتية تملأ المكان.
على هذا الشارع بائع قهوة على الرصيف ينادي بجانب عربة وكأنه يخترق الزمن الماضي ببساطته ، هنا رجل مقعد على كرسي متحرك وطفل يركض ويلعب أمامه ليذكره بطفولته وشبابه ، حينما تصل إلى حي المصيون تنتشر كثير من المؤسسات بطابعها العمراني الحديث ، لتواصل السيارة بين منعرج وآخر إلى متحف محمود درويش , بدأت أفتش عن الشخص الذي جئت من أجله ، ليخرج أمامي شخص أسمر البشرة ذات حواجب معقودة ، بوجهه لحية مخالطها الشيب جالسا على كرسيه المتحرك ينظر إلى هاتفه ، رأيت حينها مشهد يجمع بين وجه يحمل معالم وهموم وطن وتراث آلاف السنين وبين القرن الواحد والعشرين والتطور التكنولوجي إنه موثق التراث الفلسطيني أسامة السلوادي .
-“مرحبا كيف حالك ان شاء الله تمام” ؟
-“أهلا، تمام الحمدلله “.
-“بتحب نبلش المقابلة ؟ بس خلينا نقعد بمكان مناسب ” .
-“تمام نقعد هناك”، مع الاشارة بعينيه اللتين اتجهتا نحو المقاعد .
وهكذا اتجهنا و بدأت المقابلة .
النشأة والطفولة
وُلد أسامة سلوادي في ليلة ماطرة باردة من شهر شباط عام 1973م في قرية سلواد قضاء مدينة رام الله، كانت نشأته بقرية ريفية وعائلة تقضي جل وقتها في الأرض والإعتناء بها فهي تهوى الأرض والزراعة فالأرض بالنسبة لهم كالحضن الدافئ الذي يحتضنهم يوميا، و منذ صغره كان كالعصفور المتنقل من شجرة لأخرى، يتسلق الأشجار ويشارك عائلته في الحصاد وفلاحة الأرض، كانت أسرته تعمل في جميع المواسم من زراعة وحصيدة لموسم التين وموسم الزيتون وزراعة الخضروات البعلية وغيرها .. باستثناء فترة المربعنية التي تحمل معها البرد القارص، توفي والده وهو طفل يبلغ من العمر 12 عاما من بعد أن زرع فيه حب الأرض فحياته حافلة بالإتصال بها منذ نعومة أظافره فهو والأرض حكاية روح ارتبطت بسنابل قمح، وحبة زيتون، وحفنة تراب جبلت بعرق جبينه ؛ مما لفت انتباهه لجمال طبيعة بلدته سلواد، الموزعة على قمم تلال ذات مكان ساحر وخلاب، لطبيعة يوجد بها جميع أشكال الزهور والطيور والزراعة ؛ مما ولد به حبا وإنبهار بهذه الطبيعة ليصبح كالغزال الجبلي يعشق التجول بالجبال حتى بدا عليه الشغف والرغبة الشديدة لتوثيق جمال فلسطين وطبيعتها.
رحلة الصعود
كبر الطفل وكبر معه حلمه بدأ الخطو شيئا فشيئا في رحلته مع التصوير منذ بداية التسعينات عام 1991م حين كان يبلغ من العمر 18 عاما، إن المشوار في بدايته ليس سهلا على الإطلاق، لا يملك ثمن الكاميرا التي تلبي شغفه، في ذلك الحين كانت عملية التصوير مكلفة تحتاج لتحميض وفيلم وطباعة، مما دفعه لاستئجار كاميرا من الاستديو، في بداية رحلته ولم تكن لديه المعرفة والخبرة الكافية بالتصوير وحرق افلاما عديدة لكنه تسلح بالتصميم على السير نحو شغفه وكون عدد لا بأس به من الزبائن لإلتقاط الصور لهم مقابل مردود مادي يعينه بعض الشيء في الاتجاه نحو تحقيق طموحه ؛ ليستطيع اقتناء الكاميرا الخاصة به فيما بعد، فهو يلقي اهتماماً لتحقيق ذاته، واقتنا أول كاميرا خاصة به كانت تعد احترافية بذاك الوقت، ليكون نموذجا واسما لامعا في مجال التصوير الصحفي.
شعلة الانتفاضة
لم يكن خلال شعلة الانتفاضة الأولى الكثير من المصورين الصحفيين فماذا عن شاب فلسطيني بلاده محتلة وسلاحه الوحيد الكاميرا ومتشبث بأرضه ك طفل يتشبث بعنق والده، يمتلك عزيمة واصرار وروح مغامرة مثل أسامة سلوادي ؟ بالطبع سيحمل سلاحه وينزل الميدان انها لحظة دخول المعترك المهني لتخطتفه أحداث الإنتفاضة الشرسة من جمال وهدوء الطبيعة الخلابة، وبالتقاطه لمشاهد توثق الأحداث الفلسطينية واعتداءات الاحتلال الاسرائيلي تحولت شعلة الإنتفاضة إلى شعلة إنطلاقة تتلاحق عليها الصحف المحلية والعالمية إنها صورة التقطها أسامة عقب الانتفاضة في مدينة نابلس لشاب فلسطيني بيده حجارة وجندي اسرائيلي مدجج بالسلاح قابضا على عنقه تحت ذراعيه (حركة كسر الرقبة ) وما زال الشاب متمسك بحجره لتنتشر بجميع الصحف العالمية، لينتقل في عام 1994من مرحلة التصوير لصحف محلية فقط إلى صحف عالمية واكبت هذه الفترة دخول السلطة الوطنية الفلسطينية، وما زالت الصراعات مستمرة …
فالإنتفاضة الثانية كانت الأشد وطأة و شراسة لتنقله من قالب المصور الصحفي المحلي الذي يصور ضرب الحجارة والأحداث السياسية إلى المصور الحربي الذي يتنقل بين الدبابات واطلاق النار والصواريخ حاملا روحه على كفيه.
وفي شريط ذكريات أسامة ما زالت عالقة أعنف التغطيات والمشاهد المتلاحقة لسنوات الحصار كلها .
إنها لحظات حصار الرئيس الراحل ياسرعرفات الذي تعرض لعدة موجات متكررة من الحصار وما خلفه الاحتلال الاسرائيلي من تدمير، كان مبنى المقاطعة مهدوما متهالكا على إثر ذلك، أسامة أثر أن لا يستريح إلا بعد إكمال مهمته، 4 سنوات لم يأخذ إجازة ليوم واحد، كان يرى ابا عمار يوميا حتى أصبح هناك جو من الألفة وأصبح خبيرا في التعامل مع الصحافة حتى بات يفهم عليهم من نظراتهم..
يقول أسامة ” كنا اذا نظرنا لابو عمار يعرف انو معناها زبط الحطة وأحيانا يبتسم وأحيانا يكون غضبان حسب الوضع السياسي “
أما عن لحظة جنازته كانت حدث مؤلم وحزين على كافة الشعب الفلسطيني لحظات ومشاهد التقطها أسامة بعدسته وسجلت بالتاريخ إنها فترة قاسية جدا بقيت أثارها بالنفس والذاكرة والأرشيف .
ما لم يكن بالحسبان
تتغير حياة الإنسان بلمح البصر بين عشية وضحاها، حيث أنه قد يواجه ما لم يكن بالحسبان ..
في ليلة من أيام شهر رمضان المبارك عام 2006 ذهب أسامة إلى مكتبه وهو متعب ليقوم بعمل صورة لصلاة الجمعة من الأقصى وتوزيعها على الصحافة العالمية ، وإذ به يسمع صوت إطلاق نار كثيف فضوله قاده إلى شرفة مكتبه ليعلم مصدر الرصاص وإذ به القدر قاده ليصاب برصاصة طائشة اخترقت جسده وتسببت له بشلل نصفي . إنها مأساة ! ابن الجبال والعصفور المتنقل خرج من بيته معاف ليعود إليه بجسد ينقصه الحركة استهل أسامة ذكريات إصابته وبث وجعه قائلا : ” أن أصبح على كرسي متحرك لم يكن الأمر سهلا، معاناة وألم خاصة ان أكون على كرسي متحرك في بلد لا يوجد بها وعي ثقافي نحو الأشخاص ذوي الإعاقة، لا يوجد بها الموائمة اللازمة للمباني والمؤسسات لا يوجد بها الوعي الكافي اتجاه احتياجات ذوي الإعاقة ، لا يوجد أمامي إلا الإصرار أو الإنهزام، وأنا اخترت الإصرار يجب أن أكون مختلف وأقدم شيء يخلد الذكرى التي اكتسبتها وأخدم وطني وقضيتي ” .
أصبحت الإصابة نقطة التحول بحياة أسامة سلوادي لينطلق من عالم التصوير الصحفي والأحداث إلى التصوير الوثائقي ليسلط الضوء على واقع الحياة الفلسطينية وكأنها نقطة بداية جديدة من مأساة لشيء يحمل بين طياته التجدد والتطور ليصدر أسامة 11 كتاباً مصوراً.
منهم كتاب أرض الورد لتوثيق الزهورالبرية الفلسطينية كان سببا بإعادة أسامة لطبيعة بلاده وبحثه عن اسماء الزهور البرية ومواسمها ومواعيدها واسماؤها المحلية والعالمية والعلمية والعودة للجبال ليستعيد ذكريات طفولته وهو على كرسي متحرك.
فرغم أنه مقعد ما زال لديه نفس طويل و بنفس الشغف والطموح ليعمل على توثيق التاريخ المصور و الحياة اليومية والبرية للشعب الفلسطيني من خلال العديد من المشاريع التوثيقية المصورة، حيث اتجه ليكون كالعين للأجيال القادمة التي تجمع بين رواية الماضي والحاضر فالتراث هو حكاية الأجداد للأحفاد وردا على أكاذيب محتل غاشم يقوم بسرقة تراثنا كل يوم أمام أعيننا ويخفق حقنا في هذه الأرض .
لقد كانت أعواما مليئة بالكثير من التجارب بحياة أسامة سلوادي والأهم أنه ما زال مليء بالطموح وحب الحياة، مر بظروف قاسية لكنه تخطاها لم يترك اليأس يتملكه يوما تراه اسدا شامخا نبذ دور الضحية مسلما كل أمره لله مقتنعا أن الإنسان عليه يترك أثر جميل يخلد للأجيال القادمة يقول أسامة ” أحاول أن أرى الضوء حتى من خلال الأماكن المعتمة “.
مضت السنوات مسرعة واتجه أسامة نحو عالم غامض بعزيمة قوية وأشرق الصباح وأشرق معه تحقيق الطموح في نفسه، فأنطلق بالعالم الذي لطالما حلم به وأكد نجاحه، لم تكن رحلته خالية من العناء والتعب لكنه استمر في كفاحه من أجل الوصول تنقل بعمله بين عدة مؤسسات محلية مثل : جريدة الأيام وجريدة القدس وجريدة الحياة وعالميا مع وكالة الصحافة الفرنسية اي اس بي، رويترز، جاما الفرنسية، وتايم مجازين، نيوز ويك وغيرها الكثير … حصل على جوائز محلية وعالمية كثيرة ليصبح ذلك الفتى ابن الجبال والطبيعة مصوراً صحفياً عالمياً يطلب منه العمل في مؤسسات دولية وتحكيم جوائز عالمية ، وحاز أسامة ألقاباً من وحي عمله في توثيق التراث الفلسطيني منها عين فلسطين وموثق التراث الفسطيني،
استطاع أن يصنع ذاته عند اول فكرة حلقت في خياله إلى هدف يراه بعينيه يخطو إليه يوما بعد يوم وما زال مستمرا، فها هو هو من أصبح قعيدا على كرسي يودعنا وهو يمشي مهروا فاتحا ذرايعة كطائق يود التحليق في أعالي السماء، اعاقة لم تحد من طموحه فما زال الحلم مستمرا، ومازالت عدسته تلتقط
للحلم بقية
أراد أن يصبح باحثاً في الأنترولوجي والتاريخ والأثار من بعد رحلة شقاء وعمل ونجاح على مدار سنوات؛ إيماناً منه بأن من وضع العمر عائقا أمامه لن يحقق شيئا، فعاد أسامة لمقاعد الدراسة مرة أخرى بعمر (46) عاماً لدراسة بكالوريوس لغة عربية وتخرج مؤخراً والتحق ببرنامج البرنامج في علم الإجتماع لخدمة أغراضه البحثية لمشروعه الجديد وهو موسوعة الأرض والزراعة والطعام ليبدأ رحلته الجديدة بتاريخ الطعام الفلسطيني من العصر الحجري الحديث حتى الأن .
إنها إرادة ومهارات زرعت بداخله منذ صغره ليسعى و يعمل على اكتشافها وتطورها كان مغامراً بمعنى الكلمة، مضت الأيام مسرعة وأسامة الذي هزم فاجعة إصابته بدأ من جديد قرر لنفسه الإصرار ليصبح دافعا مهما للحياة والمواصلة وفخرا لثلاث وردات ربيعية ولكل من عرفه ورغم إطلاق الكثير عليه من الألقاب والصفات خلال رحلته، المهنية لكنه بقي ذاك الرجل البسيط المحب للفقراء لا يأبه لكل متكلف متعجرف و ذاك الطفل المسكون بحب أرضه والمزروع بذرتا في تراب بلاده وليالي شتائها .
حينما هممت بالمغادرة، هرول السلوادي بكرسيه المتحرك على أحد الجنبات، فاتحاً ذراعيه للسماء وكأنه يريد التحليق كطير يأبى أن يكون أسيراً لأي معيق، فها هو من التقط بعدسته كثيراً من الصور التي تخلد في الذاكرة، يعود مجددا للانطلاق نحو رحلة جديدة لا تعرف اليأس، فعلى هذا كرسي حلم لم ينته بعد.