رام الله-المحرر– حليمة خوالدة- نورة الحطاب (47) عاماً أم الشهيد محمد الحطاب من مخيم الجلزون للاجئين الذي غادر الدنيا وكان ابن الـ (17) ربيعاً، ما زالت تعيش مع ابنها رغم مرور ست سنوات على رحيله. تحتفظ في كل ما كان يملكه ابنها، حتى أبسط الأشياء.تقول نورة إنها تعيش في بيتها مع ذكريات ابنها، محتفظةٔ بكل مقتنياته وأمتعته.
يوم 23/3/2017 هو يوم استشهاد محمد، المعروف في المخيم بـ “أبو صالح”، إذ استشهد برفقة أصدقائه وهم داخل سيارة على مدخل المخيم، بعدما أطلقت قوات الاحتلال النار من برج مستوطنة ‘بيت ايل’ المجاورة على السيارة التي كانوا يستقلونها بالقرب من مدخل المخيم.
في صباح ذلك اليوم كانت نورة في السوق وطلب منها محمد طبخة “الأوزي” وأوصاها أن تجهز الأكلات التي يحبها على العشاء. كما طلب المكسرات والحلوى والشوكلاطة. حضرت له كل طلباته، جاء محمد وجلس على “البرندة” الخاصة بغرفته، تناولت العشاء معه، وبعد المغرب أخبرها أنه سيخرج إلى الحارة ليرى أصحابه. وأثناء الحديث وهو يجهز نفسه للخروج وقفت شقيته أمامه تقول له” يا الله يا حمودة صاير كثير ابيض وطويل”، التفت إليها ووزع نظراته مبتسماً دون أن ينبس ببنت شفة، كأنها نظرات الوداع، دون أن تعلم.
تقول نورة” في العادة وباستمرار اتصل على ابني عندما يخرج من المنزل، لأطمئن عليه، وأذهب للنوافذ انتظر عودته، لا أنام إلا بعد أن يدخل البيت. عادته أن يبقى مع أصحابه في السوق بالمخيم.
بعد ساعات قليلة من خروج محمد من منزله، تلقت العائلة اتصالا بأن محمد “استشهد.”
من هول الصدمة، دخلت أمه ساحة مستشفى رام الله الحكومي وبدأت تنادي بأعلى صوتها” أبو صالح انا هان يما”.
تستذكر نورة ذلك الموقف الأصعب في حياتها قائلة”ذهبت إلى المستشفى ووجدت أهل المخيم في الساحة، وعرفت أن محمد استشهد، لم أصدقهم، لأن محمد كان عندي، اتعشى وذهب للقاء أصحابه”.
مرت سنوات على استشهاد محمد، وأمه ما زالت تعيش تلك اللحظات والذكريات، التي لم تنطو ولا تنسى التفاصيل المتجذرة في الذاكرة والوجدان.”أنا من يوم استشهاده، أذهب لزيارة قبره وأتحدث معه، تحت المطر، أمشي لأوصله ولا أخاف، أنا كنت ضعيفة، وأاخدت قوتي من ابني”.
وهاي الأم تعيش مع أثره طوال الوقت، حركاته وصوته. تقول والدمعة تحتبس بين عينيها” أرى ابني في البيت يتحرك معي، وأنا حاليا بحكي وشايفة ابني وحيدي يقف أمامي ويبتسم”، أراه جالساً على “الكنباية” يحمل هاتفه الخلوي، وأراه يرتكز على الباب يطلب مني تحضير العشاء.غرفته ، تخته، ملابسه وأحذيته، كل شيء في مكانه”.ترتب نورة غرفته يومياً وتنظف أحذيته وتلمعها وتعيد ترتيبها، تحتفظ بحذائه الذي كان يرتديه وقت استشهاده.
تمضي نورة في الحفر بذكريات الواقعة الأليمة التي فقدت فيها فلذة كبدها. في صباح يوم استشهاده اشترى ملابس جديدة، من بينها “بنطال”، وتوجه الى الخياطة لتحيكه وبدلة رياضية من صديقه، وأكد على الخياطة أن تحيك البدلة خلال ساعات لأنه يريد أن يرتديها في اليوم ذاته، ذهب الى الحلاق وارتدى ملابسه الجديدة قبل استشهاده بساعات قليلة. وبعد ثلاث سنوات من استشهاده، عرفت الأم أن “بنطال” محمد ما زال عند الخياطة، ذهبت لبيتها وأخذته منها وخبأته في خزانته”، مشيرة إلى أنها أوصت ابنتها بعد موتها أن تحافظ على ملابس وحيدها، لأنه كان يحافظ على أغراضه ولا يحب أحداً أن يأخذ منها دون إذنه، رغم حبه لأهله ومعارفه.
محمد محبوب من الناس الذين عرفوه لا سيما من أهل المخيم، كان يساعد كل من يحتاج لمساعدته، يشارك الناس في أحزانهم وأفراحهم. كان (أبو صالح) حنوناً على أمه وعلى شقيقتيه، يحب المخيم إلى درجة رفض معها أن يشتري له أهله بيتاً خارجه، فهو لا يريد أن يبتعد عن بيت جده وأعمامه، طلب أن تعاد صيانة البيت في مبنى العائلة، وأن يدرس ويتزوج ويسكن مع والدته في البيت نفسه.
تعلم في عطلته المدرسية مهنة الحلاقة. وكان يتدرب في محل الحلاقة في المخيم، كان صاحب ذوق في اختيار ملابسه حتى تصفيف شعره المتعارف عليها في صالونات المخيم “حلاقة مثل شعر ابو صالح”.
كان يساعد أباه في صيانة البيت، وهو من اختار لون الدهان وثريات الإضاءة وديكور البيت دون أن يعترض أحد. وبعد عشرين يوماً من تجهيز البيت، رحل محمد إلى دار الحق.تشعر الأم بالاختناق لغياب فلذة كبدها، ولا ترتاح إلا حينما تنام في غرفته وعلى سريره وعلى مخدته، وحينما ترى ابنها الشهيد في المنام ليلة تعيش نهاراً سعيداً. على روح ابنها الفقيد، لا تتورع الأم في العطاء، فتمد يديها للفقراء والأيتام، فهي سنة ابنها الذي أختاره الله شهيداً.
كان (أبو صالح) يواصل شق طريقه في النجاح، فهو كان يرغب بالالتحاق في الكلية العسكرية بمصر، لكن أحلامه رافقته الى السماء، بصوتها المرتعش تستذكر الأم تلك الأمنيات.
حينما تعلن نتائج امتحانات الثانوية العامة في كل عام، تحتفل الامهات مع أبنائهن الناجحين، ونورة رغم مشاركتها الآخرين الفرحة، غير أن تلك المناسبة تكون كمن يحفر في قلب ارهقته لوعة الفراق، فكم كانت تتمنى أن ترى (أبو صالح) وقد اجتاز طريقه على سلم النجاح، لكن تحتسبه عند الله سائلة إياه أن يجمعها معه في الفردوس الأعلى.